المواطن ذاتي، يقول د.صالح باصرّه. يضيف ما معناه: لن يهتم بالوحدة إذا لم تصل إلى بيته، إلى أولاده، إلى وضعه المادي ومستقبل أسرته. الوحدة ليست قصيدة شعر ولا أغنية. كما أن الوحدة لن تكون ذات قيمة إذا اختزلت في " خور، وشارع" بحسب باصرّة. لا أتصوّر أن باصرّه، الذي حصل على الدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة لايبتسيش في ألمانيا، يمكن اعتباره من أتباع جيريمي بنتام، ولا تلميذه الأشهر: جون ستيوارت ميل. بالتحديد: في ميله لتفسير الظاهرة الاجتماعية من خلال الآليات النظرية للنفعية الماديةutilitarianism ، أو قيم التبادل Values of exchange، بحسب أطروحات الليبرالية الجديدة.. حيثُ تفترض النفعية البنتامية أن الإنسان كائن أناني بطبعه، وأنه لا يميل إلى الدخول في علاقات إنسانية، أو الانضواء ضمن مجتمع كبير، إلا إذا كان هذا التحوّل سيضمن له مصلحة خاصة على المستوى الفردي. تعرّفُ البنتاميةُ المصلحةَ الجماعية بأنها حاصل جمع مصالح كل الأفراد المكوّنين للجماعة.
هذا المنطق يراعي فرضية جوهرية في علوم الحضارة البشرية: إن أقصى ما يسعى إليه الفرد البشري هو "الشرف". والشرف بالتعبير السوسيولوجي هو: الحصول على التقدير الخاص، واعتراف الآخرين للفرد بالتميّز والكفاءة. وهنا ستفترض تأويلات أنثروبولوجية عديدة أن الكائن البشري يمكن أن يقبل بالانضواء في جماعة كبيرة بحثاً عن ممكنات هذا الشرف، عن الفرصة في التميّز الذهني والإشباع المادي الفردي. كذلك يفعل البشر كجماعات، تفكّر في البحث عن شرفها الشخصي حين تقرّر الدخول في كيانات أكبر حجماً وحضوراً. وغالباً ما تتحلل الكيانات الكبرى إلى الهيئة الأولى، مجموعات متناثرة من الأفراد والجماعات، في حال تعذّر حصول الأفراد المكونين لها على شرفهم الخاص، المنفرد، على مصلحتهم المضمونة من هذا المجتمع الكبير. هذا التحلّل هو ما كان يسمّيه الفيلسوف الإنجليزي الشهير جان لوك: حالة الطبيعة الأولى، أي ما قبل دالة المجتمع. وهو يفترض أن هذه الحالة ستظل تتكرّر مع كل الكيانات التي لا يمثّل وجودها الكلّي إنجازاً شخصيّاً لأفرادها منفصلين. وأبعد من ذلك فقد افترض جان لوك أن المجتمع البشري هو حصيلة توازن قوى، وأن هذه القوى يمكن فهمها من خلال قوانين نيوتن عن حركة الأجرام السماوية. كما أن لجوء هذه الجماعات، بحسب جان لوك، إلى التهديد المستمر باستخدام القوة للحصول على نصيبها يضمن تماسك المجتمع الكبير من خلال إتاحة الفرص لجميع مكوّناته، بالتساوي، ومنع قوة وحيدة من الانفراد بأسباب اللذة والامتياز.
في نسق مشابه: تذهب الدراسات التاريخية إلى أن الأمم البشرية سرعان ما كانت تميل إلى التوثين، واتخاذ مرموزات مادية بشحنات دلالية مكثّفة، تسميها آلهة. وأن هذا الميل تجاه التوثين، التجسيد، هو مكوّن أصيل في الذات البشرية التي تشعر بالإرهاق في تعاملها مع المجرّد المطلق، وتفضّل عليه بعد فترة المجسد النسبي. يمكن استعمال دالة الوحدة اليمنية للحديث عن المجرّد والمجسّد، عن الاحتياج إلى تكثيف هذه الدالة في مرموزات محسوسة بعيداً عن النشيد الوطني والأغنية الشعبية، مجرّدات المعنى والانفعال. المعنى إياه الذي يذهب إليه باصرّة في حديثه عن ذاتوية الكائن البشري.
ويُعاد الحديث حول مقولات دينية على شاكلة: حيثما تكون مصالح العباد فثمّ شرعُ الله. المصلحة المجسدة المحسوسة، المرئيّة، المعاشة، المغدقة. حتى الإيمان ذاته ، في قمة تجريده، يهدفُ إلى أن يكون مادّة، مصلحة، لذة. هذا ما تقوله وقائع الإيمان المرتبط، كنتيجة، بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم المادي المطلق المحسوس في اليوم الآخر.
اختصر باصرّة كل هذا التنظير في جملة واحدة " المواطن ذاتي النزعة"، رغم كل المحاولات التي أبداها محاوره التلفزيوني لجرجرته إلى الحديث عن ظاهرة الحراك الجنوبي، من خلال استدعاء تحليلات أمنية جاهزة: هؤلاء مجموعة من المغرّر بهم، من المأجورين، من المدفوعين.. إلى آخره. وقد سبق للكاتب الكبير عبد الباري طاهر أن احتج عبر قناة الجزيرة: لا يمكن أن نقول عن شعب بأكمله بأنه مأجور أو مدفوع، هذا منطق غير مقبول. ذهب عبد الباري طاهر إلى تأويل تاريخي لجوهر المشكلة اليمنية: اليمن لم تحكم طيلة تاريخها من قبل أسرة واحدة. وهو تأويل يفتَرِض أن ما يحدث في اليمن الآن هو "حكم أسري"، وأن الاحتجاجات الحادثة يمكن تفكيكها ضمن السياق الذاته: إعادة توزيع إدارة الدولة على جماعة من الأسر، البيوت، إذا ما أخذنا في الاعتبار دخول أسرة الشيخ الأحمر في الشمال وأسرة السلطان الفضلي في الجنوب، بما لهاتين الأسرتين من عمق تاريخي سيادي، في واجهة المشهد الاحتجاجي. أما باصرّة فقد تجاوز هذا الحاجز، لظروفه الخاصة، واقترح التحوّل إلى نظام الحكم المحلّي الكامل بصورة تنتمي إلى قواعد الدولة الحديثة، حيثُ يملك كل مواطن سهماً سياسيّاً صحيحاً يتيح له اقتراح الحل ونقيضه عبر عملية تصويت محروسة بسلطة القانون.
في اللقاء المشار إليه، فشل المحاور في التزام المهنيّة بصورة أفقية. أقول هذا الكلام، وأنا لستُ على ثقة مما إذا كان البرنامج حريصاً على المهنيّة، التي تراعي الحياد والدقّة! أم أنه يأتي ضمن سياق إعلامي موالٍ لمقولات السلطة وآليات تفكيرها، ومتطابق معها. أشير هنا إلى تقمّص المذيع لدور وزير الإعلام عند إشارته لقناة عدن: لو أننا(..) لكنّا نجحنا، واحتفظنا .. (نا)! هذه ال"نا" لم ترد على لسان الضيف الحكومي، باصرّة، بل جاءت على لسان المحاور، الذي تعثّر في سيرك الحياد على نحو مكشوف. كانت رؤية باصرة، عبر الشاشة الصغيرة، مختصراً مفيداً لرؤيته التي قدّمها منذ عامين للسيد الرئيس حول "المشكلة الجنوبية". وبرغم أن باصرّة كشف عن التفاعل الإيجابي الذي أبداه السيد الرئيس مع التقرير الأشهر، وتحدّث ( أعني باصرّة) عن إحالة التقرير إلى مجلس الوزراء.. إلا أنه لم يقل لنا: لماذا لم يُستشر، أو يكلف بأي مهمة ذات طابع سياسي، منذ تسليم التقرير إلى يد السيد الرئيس لحتى الآن! إذا كان تقريره قد حظيَ فعلاً برضا الباب الأعلى، وأن العين السيادية قد نظرت إلى صالح باصرّه باعتباره واحداً من المهرة الوطنيين الجديرين باقتراح الحل الوطني الناضج والدأب على إنجازه!
كما لا ندري- على وجه التحديد- كيف ساق باصرّة قصة رحلة الخلود التي مر خلالها التقرير من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء، بغية التعامل الجاد والوطني والمسؤول مع محتوياته المفزعة، في حين هو يدرك تماماً أن محتويات التقرير تمس مصالح غير وطنيّة لشخصيات ذات نفوذ أسطوري في أجهزة الدولة، بما فيها سيطرة هذه الشخصيات، أو الذوات النافذة، على قرارات تعيين الوزراء والمحافظين أنفسهم.. لعل د. صالح باصرّه يتذكّر كيف أنه لم يستطع حتى هذه اللحظة تغيير رئيس جامعة الحديدة رغم وقوف الإعلام والبرلمان والرأي العام والوقائع المادية إلى جانبه، وضداً لرئيس جامعة أهدر في لحظة واحدة من الأرواح، في درس تدريب عملي، أكثر مما خسرته ألمانيا في حرب أفغانستان!
قال اللقاء المتلفز مع باصرّه أكثر مما قاله الأخير. وقد قرأ المشاهدون على شفاه معالي الوزير من الكلام أعمق وأبعد مما طرحه. ويبدو أن هناك عملية بطيئة تشرف عليها جهات ذات نفوذ، تهدف من خلال هذه العملية البطيئة إلى التشكيك بتقرير صالح باصرّة جملة وتفصيلاً. ولا يستبعد أن معالي الوزير بدأ يتسمّع وقع أقدام هذه العملية بالقرب منه، لذلك يمكن فهم حديثه حول اشتراك وزير الإعلام وشخصيات حكومية أخرى معه في إعداد التقرير، وإشارته إلى أن دوره انحصر في الصياغة النهائية وحسب. ربما لحراسة التقرير بأسماء كثيرة " يستحيل تواطؤها على الكذب" كما يعرّف علماء الجرح والتعديل " الحديث الصحيح المتواتر". أو ربما لكي يتوزّع دمُ "اللعنة" على أكثر من كتفين!
لم تمر إشارة باصرّة حول رفاق التقرير بيسر، نظراً لمحمولاتها الدلالية. وهكذا أطلّ وزير الإعلام للتشكيك في ما ورد في حديث باصرّه. في الواقع، فإن وزير الإعلام كذّب ما ورد في كلام باصرّه حول مؤسسة 14 أكتوبر الصحفية، جملةً وتفصيلاً. كما واتّهمه، تلميحاً، بأنه لا يعرف شيئاً عن المؤسسة التي تطوّرت بصورة مذهلة بعد أن كانت مجرّد "خردة" بتعبير اللوزي، في إشارة تشطيرية عنيفة، تحاول أن تذكّر باصرّة بخراب الديار الذي أنجزته دولته السابقة في الجنوب! وفي السياق إيّاه، خرج مصدر مسؤول في المؤسسة ليكذّب معالي الوزير باصرّه، بلغة مؤدّبة تمنّت في الأخير لو أن الوزير التزم الدقّة في إيراد المعلومة.
هذه خطوة أولى في طريق هز الثقة في أحاديث باصرّة، كمقدمة إلى إحداث رجّة كبيرة في شخصيته ومواقفه الكلّية فيما بعد، وصولاً إلى المساس المباشر بتقريره الشهير. فالرجل حصد من الخصوم أكثر مما اكتسب من الأصدقاء بسبب تقريره الملعون، فضلاً عن مواقفه، مروراً بعمله في موقعه الذي فرضته حضرميته في لعبة توزيع البيادق على رقعة الملعب المريض، لا كفاءته الاستثنائية التي لا يبدو أن أحداً في البيت العالي يقدّرها كما يجب.
كانت عملية التكذيب التي قادها زير الإعلام شخصيّاً، وجنّد لها مجموعة من المصادر المجهولة، عاجلة وعصبية. لذا فقد كان من الطبيعي أن تكون عملية "تكذيب" باستخدام حزمة من "الأكاذيب" غير الناضجة، وغير اللائقة بمقام وزير الإعلام. معالي الوزير الشاعر الأستاذ حسن اللوزي تحدّث عن التطوير الهائل الذي عمّ مؤسسة 14 أكتوبر. كان من الملائم أن يشير الوزير إلى علامات هذا التطوير لكي يفحم باصرّة بالمعلومة الصحيحة، ولأجل أن يمنح تعليقه وزناً ماديّاً. بيد أن اللوزي لم يفعل أكثر من أنه أشار إلى "الهنجر" الذي يجري العمل على إنشائه، و"مطبعة الألوان" التي ستستوردها المؤسّسة، استجابة لأوامر رئيس الجمهوريّة! وسلّم لي على "سوف" أولاً، ولا تنسَ أن " تدحرج التماسي" على أُمّنا المؤسساتية! ملحوظة: نسيتُ أن أذكر المبنى الجديد للمؤسّسة، الذي أشار إليه الوزير، طال عمره؛ الذي أطلعنا على معادلة فيزيائية عجيبة تربط بشكل مباشر بين " المبنى الجديد" والكفاءة المهنية والإدارية..
سأنتهي من حديثي هذا فوراً، لكن .. دعونا نبتئب ( كلمة منحوتة من : يبتسم ثم يكتئب Dark Comedy) قليلاً : أشار باصرّة إلى أن ما تطبعه مؤسسة 14 أكتوبر في اليوم الواحد هو 3 آلاف نسخة، وغالباً ما تشتريها مؤسسات الدولة. وهو إنتاج يومي لا يتساوق مع وجود 300 موظف في هذه المؤسسة، بحسب باصرّة. يمكنك أن تقول الكثير من التحليل والتفكيك حول هذه المعلومة، وأن تقرّر استخدام مؤسسة 14 أكتوبر كعينة دراسة لفهم بنية الدولة اليمنية الراهنة. كل هذا ليس في الوارِد الآن، إذ ما يهمنا هو تعليق المصدر المسؤول في 14 أكتوبر على ما اعتبر أنه إهانة في حق المؤسسة وردت في كلام السيد الوزير باصرّة.. لقد قال المصدر المسؤول إن المؤسسة في انتظار المطبعة الجديدة، وأنها ستهدف بعد وصولها بالسلامة إلى رفع الإنتاج إلى 20 ألف نسخة في اليوم، كخطّة أولى. يُلاحظ هنا أن المصدر المسؤول لم يقُل لنا ما هو واقع الإنتاج الآن، لكي يفحم باصرّة، إذا كان رقم 20 ألفاً هو حلم يقظة لا يزال عائماً في غيابة المستقبل!
أضاف المصدر: نحن نوزّع ضعف العدد الذي أورده باصرّة ( أي 6 آلاف نسخة) على المؤسسات الحكومية فقط. وضعفه مرّتين ( أي 6 آلاف، أو 9 آلاف، 12 ألفاً .. مش فاهم!) في عدن لوحدها دون مرتجعات. أضاف المصدر: فضلاً عن أن الصحيفة توزع الآن في كل محافظات اليمن. ورد هذا الكلام على لسان وزير الإعلام أيضاً، الذي قال: بما في ذلك محافظة ريمة والمحافظات النائية. دعنا من حقيقة أن كل المحافظات في اليمن نائية باستثناء أمانة العاصمة، وأن محافظة ريمة (النائية) تقع في وسط اليمن وليس في الربع الخالي.. دعنا من هذا، ولنجرِ عملية حسابية بسيطة: 12000 نسخة، مضافاً إليها 22 ألف نسخة، على الأقل، بفرض توزيع ألف نسخة لكل محافظة في المعدل (حتى لو اقترحنا 500 نسخة/محافظة، فإن العدد سيتجاوز العشرين ألفاً في النهاية. لكننا سنقترح 1000 نسخة/ محافظة قياساً على 6 آلاف نسخة توزّع في عدن فقط).. الناتج: 34 ألف نسخة من العدد الواحد هو الواقع الحالي لإنتاج مؤسسة 14 أكتوبر، هذا ما يقوله المصدر المسؤول الذي زكّاه معالي وزير الإعلام. هكذا، وحياة اللي خلقك، رغم أن الهدف في السنوات القادمة، كما أعلن عنه المصدر المسؤول: 20 ألف نسخة. طيّب، سأفهم ما معنى أن الجماعة طِوال العُمُر لم ينجحوا حتى في إدارة صحيفة. لكن: أن يفشلوا في إدارة مجرّد "بيان تكذيب"، فهذا ما لا أفهمه، إذ لا يمكن أن تكون المهارات شحيحة إلى هذا الحد.
كان بمقدور وزير الإعلام أن يقتدي بوزير النفط. ففي سؤال برلماني وجه لمعالي وزير النفط، تحدث البرلماني الشيخ الحزمي عن حيازته معلومات تقول أن معالي الوزير كلّف موظفاً (خاصاً) في الوزارة بالرد على تقرير جهاز الرقابة والمحاسبة لأجل كتابة رد الوزارة ضد اتهامات الجهاز المركزي لها في قضايا فساد واختلاس منها: صرف مليون دولار (خمُس مليار ريال يمني) لعدد 4 طلاب يمنيين في أميركا، في سنة واحدة فقط، و80 ألف دولار في عام ونصف لطالب واحد،قبل أن يُنقل للدراسة في دولة أخرى بسبب فشله. قام الموظف، استجابة لأمر الوزير، بكتابة الرد الذي رفض التهم وفنّدها ونسف أكذوبة الفساد التي سردها التقرير. وبعد الانتهاء من كتابة التقرير، في ثلاث صفحات فقط، استلم الموظف المخلص والنزيه مكافأة مالية قدرها 30 ألف وخمسمائة دولار (ستة ملايين ومائة ألف ريال يمني)! أحلى سلام لأجدع ناس!