كاشتعال النار في الهشيم استطال لهيب ثورة ال"بو عزيزي" متجاوزاً تونس الخضراء إلى أرض الكنانة.. وفيما بدت معالم وجهته التالية تأخذ ألوان جنوب شبه جزيرة العرب صوب الجمهورية الوحيدة في الإقليم، فإن دولاً عربيةً أخرى من المحيط إلى الخليج ليست بمنأى عن تبعات التحول الذي أسقط زين العابدين بن علي في تونس، وإنما الفارق يكمن في التوقيت فقط، بمعنى أي الأنظمة سيأتي عليه الدور ثالثاً، وأيها رابعاً، وأيها خامساً.. وهكذا.. وحتى اللحظة فإن معطيات أيام الغضب في مصر تكاد تقطع بدنو ساعة رحيل حسني مبارك، وليكن عزاؤه الوحيد أنه الأوفى ل "بن علي".. الأسرع لحاقاً به.. فمن سيكون التالي؟ ربما أخذ الرئيس علي عبدالله صالح، على محمل الجد هذه المرة، ما بدر من عديد مراقبين خلال الأيام الماضية عن أن اليمن ونظامها على مرمى حجر من تسونامي التغيير على الطريقة التونسية.. غير أن ما يمكن أن يكون شعوراً بالنسبة لديه بأنه هو الذي عليه الدور بعد الرأس الكبير "مبارك" لم يكن ليصبح هاجساً مؤرقاً قبل أن تعصف بمصر موجة الغضب التي أسقطت مقولات طالما تشدق بها نظام حسني مبارك عن أن "مصر ليست تونس".. كان يمكن للنظام اليمني الاستمرار على الطريقة المصرية في التمثل بمقولة أن "اليمن ليست تونس" حتى بعد بلوغ نظام الرئيس المصري قاب قوسين أو أدنى من الهاوية.. فقط تضاف "مصر" إلى تونس في تأكيد نفي وجود شبه بينهما وبين اليمن، لتصبح المقولة "اليمن ليست تونس، وليست مصر كذلك".. بتكرار مفردة "ليست".. غير أن الإصرار على نفي الشبه لن يغير في المعادلة شيئاً، إذ لو كان مفيداً الإسراف في إعلان نفي وجود تشابه بأي شكل من الأشكال بين بيئة النموذج التونسي وسواها في أماكن مختلفة من الوطن العربي لكان النظام المصري أولى بتكريس هكذا نفي، وجني ثمرته. إذاً لم يعد هناك من خيار أمام الاعتراف بأن اليمن ينطبق عليها ما استدعى رحيل "بن علي" عن تونس، بل أكثر بكثير جداً، خاصة إذا تم النظر إلى الفارق بمعايير الوضع الاقتصادي والخدمي، التعليمي والصحي.. وإذا كان من شأن تيقن الحاكم في اليمن بإمكان أن يجري فيها ما جرى على تونس أن يؤدي إلى، ويسهم في، تجاوز ما آل إليه تعنت النظام المصري.. فإن نزع فتيل الأزمة يتطلب معجزة حقيقة، لا تتحدد طبيعتها فقط في توافق النخب السياسية لوحدها على أمر مهما بدا جامعاً، ذلك أن الخيط الجامع بين فاعلية الثورة التي أسقطت "بن علي" وتكاد تودي ب "مبارك" يتركز في اشتغال عصري لفئة عمرية شبابية على صلة عميقة بآليات الحداثة ووسائطها المتعددة، فيما حدود علاقتها المشوبة بالحذر بالنخب السياسية، على وجه الخصوص، تتوقف عند مجرد السماع بهم، وإن كانت هذه النخب – في مفارقة ظاهرة – هي السباقة إلى التمتع والإفادة بنتاج اشتغال هذا النوع من الشباب الثوري المعصرن، كما لو كانوا بالنسبة للنخبة جسر عبور ليس أكثر. مدفوعاً بيقين أن اليمن هي تونس، وهي مصر.. وأن حكام جمهوريات العرب على ملة واحدة، بل وغير الجمهوريات كذلك بنسب متفاوتة تستحضر خصوصية كل دولة على حدة.. فقد أقدم الرئيس صالح على خطوات، وإن كانت الآن لم تزل في طور الإعلان، إلا أنها جاءت في سياق محاولة إيقاف تسونامي ال"بو عزيزي" خارج حدود اليمن، أو بالأصح تفادي أن يستفحل ثوران أيام الغضب في اليمن إلى مستوى إحداث التحول الذي ينشد إسقاط النظام، ولا يمكنه أن يتوقف قبل أن يأتي على رأس السلطة، ويحدث أهم تغيير في هيئة التوليفة الحاكمة. تأكدَ أن نار الشهيد محمد البوعزيزي التي وهبته مجداً خالداً قد أحرق لهيبها ولم يزل طمأنينة، ليس الذين دفعوه إلى تقديم نفسه وقوداً لقطار الحرية فحسب، وإنما الذين يشبهونهم أيضاً هنا وهناك وهنالك.. فما قبل انتفاضة تونس الخضراء في كنف دفء نار البوعزيزي، وعلى إيقاع ثوريات أبي القاسم الشابي شاعر تونس العظيم، غير ما بعدها.. ولعل سرعتها الفائقة في الوصول إلى غاياتها باضطرار "بن علي" إلى الهرب، ثم تفاقمها في مصر، وتجوال سحابة دخانها بين مغرب بلاد العرب ومشرقها قد زلزلت ثقة أنظمة عربية عديدة في متانة إحكامها السيطرة على شعوبها، بل ودفعتها بشكل غير مسبوق، ولم يكن في حسبان أحد، إلى إعادة النظر في سياسات لها كانت إلى وقت قريب صفات لازمة يستحيل الفكاك منها. من كان يصدق في اليمن على سبيل المثال أن عنترية رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم والأمين العام المساعد سلطان البركاني، التي أعلن معها ليس تصفير عداد الرئاسة وإنما قلعه من جذوره، ستقابل بنكران علني من قبل الرئيس صالح ذاته، الذي تنصل عنها وتبرأ منها، مع أن البركاني لم يقصد بموقفه ذلك إلا إرضاءه؟! ومن كان يتوقع أن يتراجع المؤتمر الشعبي العام عن مسارات بدا منذ شهر مضى استحالة تراجعه عنها، مثل تصويت كتلته في البرلمان على قانون الانتخابات والاستفتاء بتعديلاته الجديدة، وتداول تعديلات دستورية تمس المادة "112" من الدستور ذات الصلة بتحديد فترة الرئاسة، فضلاً عن ذهابه صوب إجراء انتخابات نيابية ظهر أنها تخصه وحده، وما ترتب على ذلك من تكريس حالة القطيعة مع المعارضة المتمثلة في تكتل أحزاب اللقاء المشترك. نظرياً حتى اللحظة يمكن القول إن الرئيس صالح في ضوء ما أعلن عنه الأربعاء الفائت في الاجتماع المشترك لمجلسي النواب والشورى أبدى بشيء من التبكير قياساً بنظيره المصري استجابة نسبية لدرء مقدمات ما يستدعيه إسقاط النموذج التونسي على الداخل اليمني، ولكن الحكم على مدى فاعلية هذه الخطوة يتوقف أولاً على ما إذا كان نبض الشارع لم يزل عندها، باعتبارها مطالب لم يتجاوزها سقف تطلعاته، أما إذا كان قد تجاوزها فإن استجابة النخب السياسية في المعارضة لها وتداعيها حولها لن يغير في الأمر شيئاً. ثم في حال حدوث توافق شبه كلي على مضامين مبادرة الرئيس صالح المشار إليها بين مختلف الفرقاء كمنطلقات تكفي مرحلياً للخروج من الدرس التونسي باستحقاقات مجزية دونما خسائر تذكر.. فما الذي يضمن عدم قفز تطلعات الشارع عليها مدفوعاً بحمى موجة التغيير المتسارع؟.. وفي حال توافر ما يضمن اقتصار تطلعات الشارع عليها وعدم تجاوزها في الوقت الراهن.. فإلى متى.. لأسبوع، أم شهر، أم ماذا؟.. ثم هل هناك ما أغفله الرئيس صالح مع أنه على قدر كبير من الأهمية، أم أن كل ما تستوجبه المرحلة لا يتعدى "استئناف اللجنة الرباعية للحوار بين المؤتمر والمشترك لأعمالها، وتجميد التعديلات الدستورية، وفتح السجل الانتخابي لمن بلغوا السن القانوني، والإعلان عن أنه لا تمديد ولا توريث ولا تصفير للعداد.."..؟! *عن صحيفة "الناس" بالاتفاق مع الكاتب.