يبدو أن عملية استهداف وساطة الصلح بين الرئيس صالح وبين الشيخ صادق بن عبد الله بن حسين الأحمر، في الأسبوع الماضي، والتي قُتل وجرح فيها عدد من الوسطاء، ستكون آخر عملية من هذا النوع يقوم بها صالح، لأنها خلقت اصطفافا قبليا وشعبيا غير مسبوق. واشتُهر عن الرئيس صالح استهداف لجان الوساطة التي غالبا ما يقوم هو بتشكيلها وتكليفها، بل إن قائد الفرقة الأولى مدرع اللواء علي محسن الأحمر وصف الرئيس صالح ب"المتخصص" في عمليات الغدر بالوسطاء. وكان الرئيس صالح، الذي يشكِّل ويكلِّف ويستهدف في نفس الوقت، ينجح بتمرير كل ذلك في واقع لازال يمتلك كل خيوط اللعب فيه حين كانت التناقضات التي خلقها طوال فترة حكمه لاتزال قائمة. في عام 2004م كلف الرئيس علي عبد الله صالح لجنة وساطة مكونة من علماء دين وبرلمانيين وقادة أحزاب ومشايخ قبائل، بحل الأزمة بينه وبين حسين بدر الدين الحوثي، وبعد أن أقنعت اللجنة حسين الحوثي بالحوار، حددتْ موعدا ومكانا للقاء، وكان إنجازا كبيرا أن يقتنع الحوثي بذلك، إلا أن طائرة عسكرية قصفت مكان اللقاء قبل قليل من وصول لجنة الوساطة وحسين الحوثي إليه. وفي تاريخ 24/5/2010م شنت طائرة حربية غارة جوية على منطقة مردة بوادي عبيدة أدت إلى مقتل أمين عام المجلس المحلي بمحافظة مأرب الشيخ جابر الشبواني الذي كان مكلفا بالتفاوض مع أحد المطلوبين من عناصر تنظيم القاعدة. وعلى الرغم من أن وسائل إعلام أمريكية كانت قد اعترفت، في وقت سابق، بأن طائرة أمريكية هي التي قتلت الشيخ جابر الشبواني، إلا أن اللواء علي محسن الأحمر اتهم الرئيس صالح بالوقوف وراء هذه العملية. وكانت وثائق "ويكيليكس" المسربة قد أشارت إلى وجود تنسيق أمني وعسكري بين الحكومتين اليمنية والأمريكية يسمح للطائرات الأمريكية بشن غارات على مناطق في بعض المحافظات اليمنية التي يُعتقد أن عناصر من تنظيم القاعدة تتواجد فيها. وتوفيقا بين كلام اللواء على محسن الأحمر وبين ما نقلته بعض وسائل الإعلام الأمريكية، يبدو أن الحكومة اليمنية قدمت الشيخ جابر الشبواني كطعم لاستهداف بعض المطلوبين، تماما كما كانت اللجنة المكلفة بلقاء الحوثي هي "الطُعم" لاستهدافه. لكن صالح اتهم "عملاء" من داخل قبيلة عبيدة بالمشاركة في عملية استهداف الشيخ جابر الشبواني، كما توعد بالانتقام له. ومن المتوقع الآن أن تعيد تصريحات اللواء على محسن الأحمر قضية الشيخ الشبواني إلى الواجهة مجددا بعد أن كان والد الشيخ الشبواني قد قبل بالتحكيم. ويلاحظ، من خلال العمليتين السابقتين، أن الرئيس صالح يمكن أن يضحي بكثير من الخيرين في سبيل تحقيق أشياء تافهة، كأن يحمل خصومة العملية أو يتخلص بها ممن يرى أنه لم يعد بحاجة إليهم. وفي تاريخ 6/4/2011م حاول الرئيس صالح اغتيال اللواء علي محسن الأحمر حين كلف وساطة من مشايخ سنحان وبني بهلول باللقاء به لإقناعه بالعدول عن قراره، وكلف مندسين داخل الوساطة، التي ضمت إلى جانب المشايخ ما يزيد عن ثلاثة ألف شخص، باغتياله، لكن عملية الاغتيال فشلت. وبعد العملية اعتذر الرئيس صالح للمشايخ الذين كانوا على رأس الوساطة، كما تقدم باعتذاره للواء علي محسن الأحمر، وهو اعتراف ضمني من الرئيس صالح بالوقوف وراء محاولة الاغتيال رغم نفي وسائل الإعلام الرسمية ذلك. وبسبب هذه العملية خسر الرئيس صالح الكثير، لكنه لم يتعظ بذلك وعاد مجددا ليمارس ذات السياسية مع الوساطة المكلفة بحل الأزمة بينه وبين الشيخ صادق بن عبد الله الأحمر في الأسبوع الماضي. وقبل عملية استهداف الوساطة ببيت الشيخ صادق الأحمر، وتحديدا في تاريخ 22/مايو/2011م حاصر أنصار صالح المسلحون مبنى السفارة الإماراتية الذي كان يتواجد فيه الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي الدكتور عبد اللطيف الزياني، والذي قدم إلى صنعاء يحمل مبادرة خليجية لحل الأزمة في اليمن، وتنص المبادرة على تنحي صالح عن السلطة خلال شهر، لكن "صالح" الذي ظل يتهرب من التوقيع على المبادرة ويتحجج بحجج واهية، لجأ هذه المرة إلى هذا العمل. وقد استنكرت دول مجلس التعاون الخليجي حصار أنصار صالح لأمينها العام داخل مبنى السفارة الإماراتية ورفضه التوقيع، كما أعلنت عن تعليق مبادرتها لحل الأزمة في اليمن وإحالة ملفها إلى مجلس الأمن الدولي، أما الحكومة اليمنية فقد اعتذرت عن ذلك وقالت إن الرئيس نفسه حوصر في كلية الشرطة العسكرية، في إشارة منها إلى أن عملية الحصار كانت شعبية عفوية دون تخطيط مسبق من قبل الرئيس صالح أو أعوانه. ويرى مراقبون أن عملية حصار الزياني داخل السفارة الإماراتية وعملية استهداف الوساطة داخل بيت الشيخ الأحمر كانتا أكبر حماقتين أرتكبهما صالح خلال هذا الشهر، فالأولى خلقت اصطفافا دوليا، والثانية خلقت اصطفافا قبليا غير مسبوق. وكانت أحزاب اللقاء المشترك قد رفضت الحضور إلى القصر الجمهوري للتوقيع على المبادرة الخليجية بعد أن اشترط الرئيس حضورها، خشية أن يغدر صالح بها ويلقي باللائمة على المحتجين الغاضبين، كما حدث مع الزياني. ويقول تاريخ صالح إنه إما أن يستهدف الوساطة وإما أن يتملص مما توصلت إليه بافتعال أزمات جديدة، لكن هذه السياسة، في ظل المتغيرات التي يشهدها الواقع اليمني اليوم، لم تعد مجدية، بل صارت تثقل كاهل صالح المثقل أصلا بتبعات إرث كبير من الأزمات افتعلها طوال فترة حكمه التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود. وبسبب عمليات الغدر بالوسطاء التي عُرف بها الرئيس صالح، رفض عدد من المشايخ، في أوقات سابقة، دعوات من صالح للتوسط في حل بعض القضايا، خشية أن يقوم بتصفيتهم أو إحراجهم أمام الأطراف الأخرى إن لم يلتزم بما توصلوا إليه، كما حدث مع وساطات سابقة ووسطاء سابقين. وخلال حرب صعدة التي استمرت لأكثر من خمسة أعوام وشهدت ست حروب، وتدخلت فيها المملكة العربية السعودية كشريك في الحرب وقطر كوسيط في الحل، انقلب صالح على أكثر من وساطة واتفاقية واستهدف الكثير منها، ولم تنجح في النهاية سوى المبادرة القطرية. وفي تاريخ 24/5/2011م قصف نظام صالح منزل الشيخ صادق الأحمر أثناء ما كان عدد من أعضاء لجنة الوساطة، التي يقودها الشيخ أحمد أبو حورية واللواء غالب القمش، متواجدين فيه، وأدى القصف الصاروخي إلى مقتل الشيخ محمد بن محمد أبو لحوم، والشيخ أحمد مهيوب الطهيفي، كما جُرح في العملية رئيس الجهاز السياسي اللواء غالب القمش، والشيخ غالب مبخوت العمري، والشيخ سبأ أبو لحوم، والشيخ عبد الخالق شويط، ومحمد إسماعيل الروحاني، والشيخ عبد السلام زابية، والشيخ جبران مجاهد أبو شوارب. وأدينت هذه العملية على نطاق واسع، كما اعتبرتها القبائل اليمنية "عيب أسود" وأهدرتْ، على إثرها، دم الرئيس صالح. وجاءت علمية القصف لمنزل الشيخ صادق الأحمر لتكشف ما كان مستورا لأعوام، ففي بيانه الأخير المندد بقصف منزل الأحمر قال اللواء علي محسن الأحمر إن الرئيس صالح يقف وراء كثير من الدسائس، كأحداث اللحجرية التي استهدفت مشايخ تعز، وأحداث 13 يناير من عام 1986م التي أدت للاقتتال بين فصائل الاشتراكي، كما اتهم الرئيس بأنه المدبر لحادثة اغتيال الشيخ جابر الشبواني بمحافظة مأرب. وقال علي محسن بأن صالح "استجاب لوسطاء الخليج ثم حاصرهم وأرهبهم ببلاطجته في مبنى سفارة الإمارات ضاربا عرض الحائط لكل التقاليد الدبلوماسية، وكطبيعته في الغدر ودأبه على إتقان الدسيسة وإذكاء الفتن ونشر الوقيعة بين أبناء الوطن الواحد هاهو يطلب من قيادات ومشايخ ووجهاء اليمن التوسط لدى من اعتدى عليهم ليرسلهم غلى منزل الشيخ صادق الأحمر ويتبعهم على الفور بالصواريخ والقذائف المدفعية ليقتل العديد منهم ويصيب العشرات". سياسيا.. انقلب صالح على كل الاتفاقات بينه وبين أحزاب المعارضة، كما انقلب على وثيقة العهد والاتفاق بينه وبين شريكه في الوحدة السيد علي سالم البيض رغم ما اشتملت عليه الوثيقة من حلول كان بإمكانها أن تحقق حلم اليمنيين في التأسيس لدولة مدنية حديثة. ويتضح، من كل ما تقدم، أن تاريخ صالح عبارة عن سلسلة من الغدر والانقلاب على كل الاتفاقات التي يكون طرفا فيها.