سيكون من اللازم القول: إن إدارة حرب أهلية مسلحة مع الدولة بشكل حرب عصابات، يعد أمراً سهلاً ومقدوراً عليه في أي منطقة يمنية، ويمكن كسبها، طالما أن الدولة ضعيفة في فرض سيطرتها على البلاد. ذلك أن ما يذكره التاريخ وتؤكده التجربة: أن مجرد الاستمرار في حرب العصابات في أي جبهة قتالية، يعد نصراً ضد الدولة، طالما أنها لم تستطع إخماد تلك الحرب بصورة نهائية (وهو من الأمور غير المقدور عليها في مثل تلك الحروب).. غير أن ما هو معقد حقا، إلى درجة كبيرة: القدرة على التحكم بنتائج تلك الحروب، التي - بالضرورة – لن تقتصر على المتحاربين فحسب، وإنما ستطال كافة أجزاء ومكونات الدولة بما فيها الإنسان. وسيحتاج المجتمع إلى عدة عقود من الزمن لإعادة البناء والتوازن والوئام. أجزم أن حرب صعدة، تمثل إحدى أبرز نقاط الضعف في جسد الدولة اليمنية، المصنفة أساسا في قائمة الدول الفاشلة ضمن "مرحلة الخطر"، وغير القادرة على فرض سيطرتها على أراضيها. لكني اليوم أجزم أيضاً أن لدى المتمردين الحوثيين – من وراء تلك الحرب – نوايا تنطوي على أفكار خرافية تستند على استجرار التاريخ المأساوي للصراعات المذهبية. لا أدري لماذا ما زلت أزعم أني أقف على حس وطني عال، مع أني أكره أن أستمر هنا لمدة أطول، وأحلم بمغادرة الوطن في أي لحظة. إذ لم يعد هناك – وهذا أمر لا أحفل به كثيراً– ما يجعلني أبطن كراهيتي للرئيس ونظامه، ولا احرج أن أقول: وأيضاً هذا الوطن، الذي لم يبد أي مقاومة قوية تجاه عصابة التوريث والفساد الحاكمة. وهنا: دعونا مما يقوله أولئك البروباجنديون الذين يزعمون أن ما يقوم به الحوثي وجماعته في محافظة "صعدة" عبارة عن مقاومة ودفاع عن النفس. أو حتى جزء من تلك المقاومة المطلوبة..! ولدي هنا سببان لمخالفتهم. الأول: أنه في نظري فعل ينطوي على تحقيق أهداف خاصة وضيقة، تقتصر على مصالح فئة حصرت وجندت نفسها على استجرار مظالم التاريخ المذهبي المأساوي المختلق في معظمه، ناهيك عن أنها محصورة في منطقة جغرافية محدودة من الوطن الكبير. أما السبب الآخر في نظري : نزوعها، والأحرى إيمانها، بفكر العنف المسلح كأحد معتقداتها التي تسعى من خلاله لاستعادة ما تعتقد انها أحق به دون غيرها: الإمامة المغتصبة من آل البيت وفق نظرة ميتا تاريخية خاصة بهم (أي البروباجندا التاريخية التي لا تقدم الأحداث كما حدثت فعلا بل تضفي عليها هالة أسطورية تلغي التفكير المنطقي). بالنسبة للسبب الأول: فاعتقادي يتمثل بأن الحركات التي تنشأ وفق أهداف فئوية ضيقة، لا تمثل إلا نفسها. بما يعني – جزماً - أن الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها هي أهداف محصورة بمصالحها الخاصة فقط، ناهيك عن ماهية تلك الأهداف، وتعلقها بأحداث ماضوية يعتقد أن أغلبها مختلقة. إن التمسك بتلك الأفكار يخلق مناخاً صراعياً متعارضاً وفكرة التسامح الديني وإزالة آثار الماضي، والانتقال للحياة بنسق بناء الحاضر والمستقبل. بما يعني استمرارية الاضطرابات الداخلية، أو بالأحرى، الإبقاء على إمكانية خلق اضطرابات داخلية تشل حركة البناء والتنمية المستقبلية. وبالنسبة لحجتي في السبب الثاني: أن فعل العنف المسلح ينبع – غالباً - من ضعيف الحجة، الذي لا يستطيع المواجهة البرهانية في كثير من عقائده وأفكاره، فيلجأ إلى الدعوة إليها بلغة السلاح. أضف إلى ذلك، أن إجماع جزء من الشعب – كثيراً كان أم قليلاً – على سوء سلوك الحاكم ونظامه، لا يعني أن السبيل الوحيد لتعديله أو تغييره، يأتي عبر السلاح. وفي الحقيقة إن استخدام السلاح ضد أي سلطة – ديكتاتورية أم ديمقراطية – يمنحها مزيداً من القوة والحجة للبطش، مما يتيح لها ضمناً فرض السيطرة على الحياة المدنية. أضف إلى ذلك أن الرصاصة – في مثل هذه الحروب – أكثر موضع تفضل أن تستقر فيه، هو قلوب وأجساد أبناء الشعب المنهكين، بل والمجبرين: جنودا ومريدين، من كلا الطرفين المتصارعين. هل هذا يكفي لتفسير مزاعمي بالامتلاء بالحس الوطني العالي، رغم ما أعلنته من عمق كراهيتي للنظام، وقواده..! ما الذي سيجعلني – حتى وأنا على هذه الحالة من البغض –أقبل بحرب أهلية تصدر الموت الجماعي؟ إلا أن أتمثل طبيعة وسلوك اليمنيين القدامى، الذين يروى أنه حينما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم للحق، قالوا (ربنا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء). • حرب أهلية ذات نتائج مدمرة: هي حرب أهلية إذن، وليست غير ذلك..وتمتلئ المؤشرات بكونها كذلك. مسوغاتها، تكتيكاتها، وبالجملة: نتائجها الداخلية والخارجية. وسيصيبنا من نتائجها المدمرة – حاضراً ومستقبلاً - ما يصيب أي مجمتع يخوضها، سواء بالمشاركة فيها، أم بالتحيز لأحد الطرفين أم حتى بالانتظار السلبي لنتائجها.. هي كذلك، مع أن هناك من يرى، أنها لا تندرج ضمن الحرب الأهلية، كون الحروب الأهلية – بحسب بعض التعريفات – هي التي تقوم بين جماعات في بلد واحد، خارج إطار الدولة، أو بعد تفكك الدولة وانهيارها. ومثل هؤلاء..الواضح أنهم يرومون الخلوص للقول أن تلك الحرب إنما تدور بين قوات الدولة الشرعية وبين فريق متمرد على الشرعية ودستورها. هكذا يرون الأمر، وفي الحقيقة ربما أنهم يقولون ذلك احتراساً من تدخل أممي، يفترض أن يحدث في أي لحظة، وغالباً: حين تشعر الأمم الأخرى أن هذه الحرب بلغت مرحلة الخطر، وباتت تشكل خطراً على أطراف عالمية أخرى، أو حتى على حقوق الإنسان والمواطن اليمني. الواقع المتفق عليه: أن هناك حرباً تدور رحاها منذ 2004 بين السلطة، ممثلة بجيشها النظامي التقليدي، وجماعة مسلحة، وتقريباً: تسيطر على محافظة تتبع مكونات الدولة. وبحسب ما تسوقه الموسوعة الحرة (ويكيبديا)، فإن اللجوء إلى الحرب الأهلية يعتبر حالة قصوى من حالات حق دفع الظلم والثورة على حكومة أو فئة حاكمة أخلت بحقوق الشعوب والمواطن (كما جاء في دستور الثورة الفرنسية الصادر عام 1793، أو بموجب مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها المتضمن في ميثاق الأممالمتحدة). قد لا يروق مثل هذا التوصيف، القائلين بغير الحرب الأهلية. لكنه يؤكد أنه حتى الحرب التي تكون الدولة طرفاً فيها تعتبر "حرب أهلية". ومع ذلك علينا أن نلزم الحياد الموضوعي، الذي يجبرنا هنا أن نرفض استمرار تلك الحرب كون نتائجها تطال الوطن بمختلف جوانبه الاقتصادية والاجتماعية. فبالنظر لأي حرب أهلية تتصف بالضراوة والعنف، فإن نتائجها – بحسب الموسوعة ذاتها- ستطال الجوانب الاقتصادية والاجتماعية المدمرة على المدى القريب، والمؤثرة بعمق على المدى البعيد، لأنها تشمل مناطق آهلة بالسكان وتكون خاضعة لهجمات متقطعة وغير منتظرة، وتفرق بين الأهل والجيران فتشل الحياة الاقتصادية وتمزق النسيج الاجتماعي، ويحتاج المجتمع إلى عدة عقود من الزمن لإعادة البناء والتوازن والوئام.
ناهيك عن نتائجها الخارجية، التي – كما تقول الموسوعة في هذا الجانب الذي تفضي إليه الحروب الأهلية – تشكل فرصة لتدخل الدول الكبرى أو المجاورة في مجريات الأمور الداخلية للدولة المعرضة لمثل تلك الحروب. ذلك أن وقوع مثل تلك الحروب يضعف كثيراً من سيادة الدولة، ويزيل التماسك الداخلي في وجه التدخل الخارجي، كما أن احتمالات التغير في موازين القوى داخليا قد يؤثر على الدول المجاورة سلباً وإيجاباً، فترى بعض الدول في انتصار فريق على فريق تهديداً لأمنها، أو للتوازن في تلك المنطقة من العالم أو على صعيد أوسع. ولا يستطيع أحد أن ينفي حدوث مثل تلك النتيجة المرافقة للحروب الأهلية، والتي أفضت إليها الحرب الدائرة في صعدة، من تدخل خارجي، إن بشكله الواضح: المملكة العربية السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية. أم بشكله غير الواضح: بعض الدول الكبرى، التي تربطها مصالح خاصة مع النظام اليمني، أو بعض الدول الإقليمية، التي تسعى لتصفية الحسابات سواء مع النظام اليمني، أم مع أطراف إقليمية أخرى. وخلاصة ذلك أن بلادنا أصبحت ميداناً خصباً لتصفية الصراعات بين مراكز القوى الإقليمية والدولية. • وهي أيضاً: حرب أهلية بتكتيك حرب العصابات وغير هذا وذاك، فإن الرئيس علي عبد الله صالح – الذي يخوض باسم النظام والدولة تلك الحرب الطاحنة منذ 2004 مع جماعة الحوثي "المتمردة" -كان أكد مؤخراً، كما أكد عديد مسئولين، أن الدولة من الناحية التكتيكية تواجه "حرب عصابات". وعالمياً تدرج حرب العصابات (Guerrilla warfare) في إطار التكتيكات الشائعة الاستخدام في الحروب الأهلية. وحرب العصابات – وبحسب الموسوعة أيضاً - تعرف بأنها: حرب غير تقليدية، بين مجموعات قتالية يجمعها هدف واحد، وجيش تقليدي، حيث تتكون هذه المجموعات من وحدات قتالية صغيرة نسبياً مدعمة بتسليح أقل عدداً ونوعية من تسليح الجيوش. وتتبع أسلوب المباغتة في القتال ضد التنظيمات العسكرية التقليدية في ظروف يتم اختيارها بصورة غير ملائمة للجيش النظامي. ومقاتلو حرب العصابات - تكتيكياً - يتفادون الالتحام في معركة مواجهة مع الجيوش التقليدية لعدم تكافؤ الفرص، فيلجأون إلى عدة معارك صغيرة ذات أهداف استراتيجية. وهذا التعريف، ينقلنا مباشرة إلى ما يحدث في محافظة صعدة، وتحديداً: لما تقوم به جماعة الحوثي، المدعمة بتسلح أقل عدداً ونوعية من تسلح الجيش، واتباعها أسلوب المباغتة القتالية. أضف إلى ذلك، أن حرب العصابات تعتمد بشكل رئيسي، على الإعلام (كما هي عليه حالة جماعة الحوثي اليوم) التي تقوم بتصوير العمليات العسكرية، وبثها عبر الإنترنت، وبعض القنوات الفضائية. سواء تلك التي تقوم بها ضد الجيش، وتعتقل مجموعات منهم، وتعرض ما غنمته من أسلحة وعتاد، أو تصوير وبث تلك العمليات التي يقوم بها الجيش، لكنها ستؤثر سلباً على أدائه القتالي والحربي في الميدان، والتي يدخل بضمنها محاولة إثبات التهم والادعاءات القائلة باستخدام الجيش لبعض الأسلحة المحرمة، أو من قصفه المدنيين، وقتله الأطفال، وغيره. كل ذلك يتم لتحقيق مجموعة أهداف على رأسها كسب المزيد من الأنصار، والتعاطف المجتمعي والدولي. كما يدخل بضمن ذلك: لجوؤهم إلى استخدام الدعاية والحرب النفسية باعتباره أمراً مهماً، كما هو كذلك بالنسبة لأي عناصر تخوض حرب عصابات، مع قوة أو جيش تقليدي يفوقها عتاداً وعدة. وخلاصة الأمر، فإن ما يدور في محافظة صعدة، هي من حيث التكتيك القتالي، حرب عصابات، وهي تندرج في إطار الحروب الأهلية/الداخلية. • الغوص في العمق.. الحوثية كمتغير جديد: لكن: أياً يكن الأمر، هل ستكون الدولة مجبرة على التعامل مع الحوثين على أساس تلك التعريفات والفرضيات؟ مع العلم أن حروب العصابات التي تخاض في أماكن مختلفة من العالم، أثبتت أنها لا يمكن أن تنتهي بسهولة، بل ربما لا تنتهي إلا بتسويات إما سياسية، إذا كان من ورائها أهداف سياسية، وإما تسويات تاريخية، إذا بنيت على ذلك. هل يجب أن تتخلى الدولة عن دورها المفترض في الدستور، وتوقف تلك الحرب من طرفها، كونها الطرف الفاعل في إدارة أو إيقاف تلك المواجهات؟ وهل سيعني ذلك أن الدولة تلقت هزيمة ساحقة، وأن الحوثين سيفرضون شروطهم؟ ما هي التسويات التوفيقية إذا ما تقرر ايقافها؟ وما الذي سيكسبه أو سيخسره كل طرف؟ وهنا من أجل الإجابة: هل علينا أن نعاود الخوض في متاهة: من على حق.. الدولة أم جماعة الحوثي؟ وماهو الأساس والجذر الذي أنتج تلك الحرب؟ الواقع أن كثرين منا – وأنا في الركب ذاته- بات يحمل في ذاكرته المستحثة، نقداً تحاملياً على سياسات القائمين على النظام. إنها إلى جانب كونها مبنية على المصلحة الخاصة لا الوطنية، فهي سياسات حمقاء، اعتمدت منذ أكثر من ثلاثة عقود على فكرة الاستمرارية عبر الكثير من السلوكيات الشاذة، وربما ما يهمنا عند هذه النقطة: استغلالها الاختلافات الفكرية بين فئات وجماعات محددة من أفراد المجتمع اليمني، والعمل على تغذيتها بشكل مستمر (غالباً ما استهدفت النظام في ذلك الجماعات التي يتخوف على مستقبله ومصالحه منها، لكونها الأكثر تأثيراً في الساحة). أثناء سلوكه ذاك، برزت – على ساحة الصراع البارد - قوة أخرى، حملت أفكار أخرى لم يعتقد النظام أنه سيكون ضحيتها الأولى، وأنه أول من سيكتوي بنارها. برز شخص اسمه حسين بدر الدين الحوثي – يقول إن نسبه يمتد إلى بيت الرسول (ص). لقد سيطر الحوثي على تلك المجموعة التي تسمى ب"الشباب المؤمن" الشيعية الزيدية، ممن خرجوا من رحم النظام (يتكرر كثيراً أن النظام كان قد تعهدهم ودعمهم لأغراض وأهداف في نفسه). لقد استطاع الرجل أن يجعل من نفسه القائد والزعيم لبعث وإحياء فكرة "شيعية" متجذرة في الشعور الوجداني. فكرة، بل معتقد ليس بجديد في إطار معتقدات المذهب الشيعي، لكنه كان نائماً لا بل متسامحاً في اليمن منذ فترة ليست ببعيدة. يقوم مرتكزه الأساس على إحياء وتكريس فكرة "المظلومية" التي يتعرض لها الشيعة في العالم الإسلامي السني، وهنا في حالة الحوثي خصصت اليمن كميدان للتلك الثورة(يقف الشيعة على فكرة ميتافيزيقية تقول إن الإمام أو المهدي المنتظر الذي سيخرج من سردابه ليشيع العدل في الأرض، ستكون إحدى مؤشرات خروجه: أن تعلن ثورة شيعية في اليمن بقيادة شخص اسمه حسن أو حسين. لا أحد يدري صحة وجود ذلك الأمر من عدمه في أدبيات الشيعة، لكن بعض الكتب توردها بالفعل). ومعتقد آخر يسكن إيمان الشيعة – أيضاً - يقرر: أن الإمامة لمن خرج لها، وأخرى تحدد: لمن خرج لها بالسيف. ينفي البعض من طلاب وأتباع الحوثي نسبتهم إلى الشيعة الجعفرية، الإمامية الاثنى عشرية، مؤكدين نسبتهم للمذهب الزيدي المتسامح، الذي يرى أن الإمامة ليست بالنص على شخص محدد وإنما الإمامة هي لأي شخص من نسل علي بن أبي طالب يخرج طالباً لها. غير أن بعض الملازم التي نسبت لحسين الحوثي، ربما تعزز فكرة أن هناك انشقاق حدث في الفكر الزيدي تنسب أفكاره للحوثي الأب بدر الدين، ليتولى قيادتها ونشرها ابنه حسين. ويقال أن ملازم هذا الأخير : تحض على إحياء الثورية واستخدام العنف المسلح. وهو من أجل نجاح ذلك يحث على التضحية بالنفس إلى الجنة، في سبيل الخلاص من تلك المظلومية الجماعية، واستعادة روح وحرية المذهب الشيعي في اليمن، الذي همش وأقصي من قبل السنة. • فكر ثوري أسسه الشعور بالظلم في واقع الأمر: كان يمكن أن تدار معركة فكرية في إطار من مبادئ حرية الفكر وحرية الرأي والتعبير، وحرية المعتقد. غير أن ذلك السبيل، لا يمكن الركون إليه في معركة الحق والباطل بالنسبة لبعض منتسبي الشيعة. ولقد اتسمت الحركة الشيعية – قديماً وحديثاً وبحسب بعض المؤرخين- بالثورية والعنف والخروج على السلطان من غير آل البيت. ويرجع بعض المؤرخين أن تلك الثورية إنما جاءت كنتيجة مرافقة لمعركة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي. والتي اعتبرت منعطفاً هاما في تطور الفكر الشيعي. حيث تجسدت تلك الثورية بعد أن استشهد الحسين بطريقة مأساوية مفزعة ألهبت مشاعر الشيعة، وجعلت الأمر يتحول إلى اعتماد أسلوب الثورة على السلطة وإعلان الحسين كرمز المظلوم". بعد أن سيطر حسين بدر الدين الحوثي على جماعة الشباب المؤمن في 1997، افترق عنه مجموعة من مؤسسي ومنظري تلك الجماعة، بعد ما يقال أنهم اختلفوا حول الأفكار التي استحدثها الرجل. وبعد أن استقر الأمر له برز كقائد كاريزمي استطاع أن يلهب حماسة تلك المجموعة. وعلى المدى تبنت الجماعة شعار"الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل..الخ" وهو الشعار الذي نادى به آية الله الخميني في السبيعنيات، في ثورته الانقلابيه ضد حكم شاه إيران المعروف حينها بولائه لأمريكا. نجح الانقلاب الذي اعتبر ثورة إسلامية، وعاد الخميني إلى إيران كقائد وزعيم لتلك الثورة، ورئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية. غير أن الفارق الجوهري بين ما حدث هناك، وما يراد له أن يحدث في بلادنا: أن الفكرة الثورية التي تزعمها الخميني اشتهرت بكونها ثورة سلمية في معظمها، استخدم فيها الإيرانيون مختلف الآليات المتاحة لهم بعيداً عن السلاح. وربما أراد حسين الحوثي – الذي قتل في 2004 في المواجهات مع الحكومة – السير على منوال زعيمهم الروحي الخميني، من خلال ترديد الشعار نفسه كإيحاء ضمني - مفترض إطلاقه - ضد كل نظام موال لإمريكا، وبالتالي ضرورة تغييره. غير أنه - واقعاً – جسد تلك الثورية عبر المواجهات المسلحة، لا عبر النضال والكفاح اللاعنيف. قد يمكن عزو حمل الحوثي السلاح ضد الدولة لأحد أمرين. الأول: أن ذلك يعود إلى الواقع اليمني وبالأخص القبلي، الذي يعتبر السلاح جزءاً من شخصيته. وبالتالي فإن توفره لدى كل فرد من أنصاره وطلابه، معززاً بالصفات القبلية الجلفة القاسية غالباً، والتي ترفض الظلم والقهر، إلى جانب ما يحمله كل فرد في اللاشعور من حب المواجهة العنيفة بالسلاح ضد أي اعتداء.. كل ذلك ربما أدى لأن يكون السلاح هو الحاسم الوحيد للمعركة، مستثنياً سلاح الإقناع الفكري، ربما في مجمتع متهم غالبيته العظمى - بالأساس – في تعزيز الظلم ضد الشيعة المستضعفة. أما الأمر الآخر: فيكمن عزوه لفكرة الثورية العنيفة التي اتسمت بها مبادئ الشيعة على مر الأزمان، مستندة حتماً لمبدأ: أن الإمامة لمن خرج لها بالسيف. مضافاً إلى ذلك فكرة تعزيز الظلم ومواجهته بالتضحية بالروح. وبحسب ما تضمنته الملازم المنسوبة للزعيم الأول، فإن الموت في سبيل الفكرة هو الطريق الأسرع للجنة. على أنه ربما يمكن أن يعزا ذلك – وهذا ما يمكن ترجيحه - لتوافر السببين معاً. • الخلاصة الخلاصة من وجهة نظري: أن أي حركة أو مذهب، يبني قيمه ومبادئه على معتقدات من هذا النوع، فإن فرص الحوار معها تكون ضئيلة جداً، مالم يتم إحداث تصحيحات جذرية في المعتقد الجذري الأساس، الذي يمثل القائد الفعلي للمعركة الميدانية. كما أن نظاماً يعمل وفق آليات بعيدة عن الواقع دون استراتيجيات وطنية واضحة – عدا المحافظة على السلطة، وتناسلها بين الأبناء – لن يكون قادراً على إنهاء تلك الحرب، بل من المتوقع أن تفضي تلك السياسة لمزيد من الحروب الداخلية. وحينها لن ينال النظام أياً من الأمرين: الدولة والسلطة. هل يدافع الحوثي وجماعته عن حرية ممارسة شعائرهم الدينية؟ هذا ما ينسب لهم. إذن:على الدولة أن لا تمنع عنهم تلك الحرية. بل يتوجب عليها أن تسعى لتذليلها لهم. ولكن هل سيتخلى الحوثيون – وهذا ما يفترض - عن أسلحتهم، أو حتى عن فكرة الثورة المسلحة؟ ذلك إذن ما يجب النظر فيه. وربما من الأفضل، أن لا يفرض الحوثي شروطاً تعزز تواجده وسيطرته على المحافظة، بل عليه - وبالطبع على أنصاره - أن يعودو كمواطنيين يمنيين يشبهوننا بمواطنتنا. وفي حالة أن تطغى السلطة عليهم كما طغت وتطغى دائما على شعبها، فعليهم مثلنا وبقية الأحزاب والطوائف أن يمارسوا الفعل الديمقراطي بآلياته المتاحة. وحتى إن استخدمت السلطة القمع بكافة أشكاله، فإن جين شارب يؤكد – والكثيرين معه، والتجارب تدعمه في ذلك – أن للكفاح اللاعنيف، قوة كبيرة، يقول إنها أقوى من العنف السياسي، إذ يؤكد"أن اللاعنف يؤثر مباشرة على قوة الخصم. أكثر مما يؤثر العنف السياسي. ذلك أنه يضرب مصادر قوة الخصم مباشرة". بل ويعتقد أيضاً أن من شأن استمرار المقاومة والحفاظ على تنظيم اللاعنف، حرمان الخصم تدريجياً من مؤيديه التقليديين وإضعاف قوتهم النسبية التي يتمتعون بها. صحيح أن مثل هذه المبادئ لا يمكن استساغتها، ليس فقط عند الحوثيين، بل أيضاً عند قبائل أخرى عديدة في الوطن. كونها باتت تؤمن جيداً – وهذا ما أثبتته تجاربها – أن مواجهة جبروت وظلم وطغيان النظام لا يمكن أن يكون إلا عبر استخدام أساليب عنيفة، مثل: الخطف، والتقطع، وأحياناً تفرض عليهم المواجهات المسلحة، وذلك بغرض تحقيق أهدافها التي تختلف في كل حالة مواجهة مع النظام. وحين سيعد الحديث عن اللاعنف ضرباً من اللاموضوعية هنا، فإنه أيضاً لا يمكن مقاربته أو مشابهته بما يحدث في صعدة. ذلك أن الفرق سيكون واضحاً بين هذه الحرب الدائرة منذ أكثر من خمس سنوات بأهدافها ومسوغاتها – المشار إليها آنفاً - وبين تلك المواجهات القبلية الصغيرة بين الحين والآخر بأهدافها الآنية غير المبنية على أفكار استجرارية للصراعات المذهبية، أومحاولة فرض السيادة واستعادة الإمامة المسلوبة من آل البيت.(هذا بالطبع في حالة أن يثبت حقاً أن الحوثي يسعى ضمن أهدافه إلى تحقيق ذلك) وأخيراً وليس آخرا: ربما يجدر بالحوثي – قبل النظام - أن يستجيب لفكرة الحوار الوطني الشامل، المعلن في رؤيتة للإنقاذ الوطني، التي أعلنتها اللجنة التحضيرية للحوار الوطني – أمس الاثنين – على الأقل: حتى يثبت سلامة أهدافه ونواياه من وراء تلك الحرب. ذلك سيرجح – ربما – فكرة المقاومة للدفاع عن النفس (مع أن ذلك لا يبرر اللجوء إلى العنف ورفع السلاح، في ظل إمكانية اللجوء إلى استخدام المقاومة اللاعنيفة) ربما هناك تساؤل مستقبلي لا يمكنني الإجابة عليه في الوقت الحالي: إذا ما تغيرت أسس وقيادات النظام الحالي، فهل ستتغير معتقدات وأفكار الحوثي وجماعته؟ بمعنى: هل ستشهد اليمن، سلاماً اجتماعياً، ولن تكون هناك حروب ومواجهات أخرى مع أي مكونات جديدة للنظام؟ بحسب أحد الأصدقاء، أن الإجابة على هذا السؤال، ستتعلق بطبيعة وسلوك النظام الجديد الذي سيحكم اليمن..! وفي الحقيقة أن مثل هذه الإجابة الدبلوماسية لا يمكنها أن تكون مقنعة – على الأقل بالنسبة لي - وخصوصاً إذا ما تأكد فعلاً أن لدى الحوثيين نوايا بل رغبة جامحة في استعادة الإمامة المسلوبة، تمثلاً لمايفرضه عليهم واجبهم الديني المقدس.