تدخل الانتفاضة الشعبية طوراً جديداً، فيتخذ المحتجون في ساحات الاعتصام في أذهانهم تصوراً محدداً للتصعيد الذي يقود إلى حسمها وإسقاط النظام في اعتقادهم دون التمعن في جدوى أي من أشكال العمل الثوري الذي يودعون فيه كل آمالهم. في المرحلة الثانية من الانتفاضة، طغى حديث "الزحف" إلى القصر الرئاسي لفترة طويلة على ما سواه من وسائل التصعيد لاعتقاد المحتجين أن نقل الاحتجاجات إلى باحة القصر كفيل بإسقاط النظام وفرار رئيسه حتى أن "الزحف" صار يُطلب لذاته ورمزيته المجردة دون التفكير في إمكانية أن يسقط النظام على إثره بالفعل. وعقب نقل الرئيس علي عبدالله صالح إلى العاصمة السعودية لتلقي العلاج إثر إصابته البالغة مع عدد من كبار مساعديه في الهجوم على القصر الرئاسي أوائل يونيو الماضي، برزت فكرة تشكيل مجلس انتقالي لحكم البلاد على أنقاض حكم صالح الذي خيل إلى المحتجين أنه قد سقط بمجرد سفر الأخير للاستشفاء في الوقت الذي أمسك أفراد عائلته بالحكم. سير أنصار الانتفاضة الشعبية منذ إجلاء صالح إلى الرياض لتلقي العلاج مظاهرات كثيرة من أجل تشكيل مجلس حكم انتقالي لكن لم يكن معلوماً أي جهة يطالبونها بتشكيل هذا المجلس بالرغم من أنهم خرجوا وراء هذا المطلب بموجب أن النظام قد سقط وحان الوقت لقيام حكم جديد. كان ذلك دلالة سافرة على أن المحتجين مأخوذون بالسير قدماً فقط وتحقيق تقدم معنوي دعائي دون التركيز على تحقيق مكاسب ميدانية من شأنها فرض قيام مجلس انتقالي واقعي أو أي من صيغ الحكم المؤقت إذ ليس معقولاً أن يُشكل نظام مازال يحكم ويقاتل دون السلطة نظام حكم على أنقاض حكمه مثلما هو غير معقول ابتداء أن يطالب ثائرون نظاماً يثورون عليه بإنهاء نفسه وترتيب مستقبل حكمهم القادم. وتشكيل أنظمة الحكم الانتقالية يعني سقوط نظام وسيطرة نظام بديل إضافة إلى بلوغ الثورة نقطة النهاية وهذا ما لم يحدث مع الحكم والانتفاضة اليمنيين علاوة على أن إعلان مجلس انتقالي دون امتلاكه سلطة حقيقية تؤثر في مصالح الناس هو فعل مائع لا قيمة له. فلا هو فعل ثوري، يعكس بصدق ما أنجزته الثورة ولا هو فعل سياسي يتسم بالواقعية. إنه مجرد دعاية سياسية تقفز على الواقع وتشي بالإحباط والملل وتنال من عزيمة الثورة بما يعنيه في أحد دلالاته من ضرورة توقف العمل الثوري وبدء الحكم. السبت الماضي، أعلن تكتل مشارك في الثورة الشعبية تشكيل مجلس رئاسي انتقالي وتصوراً لمجلس وطني ومجلس قضاء ومجلس دفاع وطني. فقد أعلنت اللجنة التحضيرية لمجلس شباب الثورة تشكيل مجلس رئاسي انتقالي من 17 عضواً كما ذهبت إلى أن نظام علي عبدالله صالح قد سقط "بشكل كامل ونهائي" في واحدة من فرضيات بيان الإعلان القائم كلية على فرضيات عجيبة يتعامل معها على أنها حقائق. ويمكن لتسليط الضوء على بيان إعلان المجلس الانتقالي من اللجنة التحضيرية أن يوضح إلى أي حد ينال العمل السياسي الوهمي من العمل الثوري ويبيع الوهم المحض لعامة الجمهور المشترك في الثورة حين يصدر بدوافع اعتباطية معزولة عن الحاجة والواقع. فالبيان ينتزع من التاريخ وقائع افتراضية هائلة ويتطوع لتقرير أنها قد حدثت مخاطباً بذلك أناساً يشهدون واقعاً مختلفاً تماماً أو أنه هو من يقرر صنع منعطفات تاريخية وإهداءها لجمهوره المتلقي، كالقول في إحدى فقراته "اللجنة التحضيرية لمجلس شباب الثورة وفي هذه اللحظة التاريخية الهامة تقرر جعل يوم 16يوليو 2011 يوماً فارقاً في حياة شعبنا العظيم (ينتهي) به عقود من الاستبداد والمعاناة والحكم العائلي العصبوي ويبدأ به عهد جديد يقوم على الحرية والعدالة والمساواة واحترام حقوق وكرامة الإنسان وشراكة في السلطة والثروة والحكم بالمؤسسات والقانون". ومبدئياً، كيف للجنة تحضيرية ذات مهام فنية تنحصر في الترتيب لقيام تكتل مثل أي من التكتلات التي تملأ ساحات الثورة أن يشكل مجلساً رئاسياً لحكم البلاد. هذه هي الهوة الخيالية كالهوة بين الفرضيات التي ساقها بيان إعلان المجلس والحقائق على الأرض. اللجنة التحضيرية نفسها أيضاً تشكل "مجلساً وطنياً انتقالياً يتولى المهام التشريعية والرقابية، ووضع دستور جديد للبلاد وفقاً لما ستسفر عنه نتائج الحوار الوطني، كما يتولى إدارة حوار وطني يتمخض عنه حلاً عادلاً ومنصفاً للقضية الجنوبية وقضية صعدة". وفي الوقت الذي تعلن فيه اللجنة انتهاء حكم صالح نهائياً، تدعو "شباب الثورة لمواصلة نضالهم السلمي لأجل تثبيت مؤسسات الثورة، وإنهاء اغتصاب عائلة صالح وعصابتهم لمؤسسات الدولة". لن يختلف هذا البيان في مضمونه عن بيان ما يخرج على الناس لإخبارهم أن الأرض مسطحة لا كروية، وهو بيان خيالي يخاطب عاطفة الغضب المجردة لدى المحتجين الذين يلمسون تعثر الثورة ويتشوقون لأي خطوة تشعرهم بالانتقال إلى مرحلة تالية. حتى هؤلاء سيدركون يوم الاثنين كم هو الفرق شاسع بين معطيات الواقع والجموح السياسي حين يستأنف نظام صالح قتل متظاهرين اثنين وجرح آخرين في العاصمة صنعاء حين تجاوزوا ساحة التغيير وهو نفسه النظام الذي مازال يعتقل المعارضين في المطارات ويضرب السكان بالمقاتلات الحربية والصواريخ.. ويواصل حصاراً خانقاً على المواطنين. حتى لو كان البيان تخلى عن المقدمة التبريرية لإعلان المجلس الانتقالي فستظل فكرة إنشائه مزحة ثقيلة في الوضع الراهن قبل إسقاط نظام علي عبدالله صالح من الحكم وامتلاك القدرة على إدارة مناطق البلاد وتسيير حاجات المواطنين بالقدر الذي يشعرهم أن هذا المجلس هو الرابط بين مصالحهم وتسييرها ويقنعهم أن عهداً جديداً قد بدأ. والغريب أن قادة في المعارضة السياسية وردت أسماؤهم في عضوية المجلس الانتقالي ظهروا راضين عن هذا الأداء الهزيل ويعلقون عليه كما لو أنه حقيقة، غير مدركين أن ذلك يستهلك الأمل المعقود على أي شكل من إشكال الحكم المؤقت قد تشكله قوى الثورة لاحقاً مهما حظي بإجماع كما يستهلك جدوى الفكرة نفسها فيما بعد. من حق أي من قوى الثورة وضع تصورها لإيصال الثورة إلى نهايتها والترويج لذلك لكن مع التفريق بين التصورات التي يجري الحديث عنها بصيغة المستقبل والتخيلات التي يتم تسويقها على أنها حقائق حدثت فضلاً عن أن الثورة الشعبية فعل جماهيري عريض اشترك ملايين في صنعه فغير قويم المناورة بها واتخاذها أداة للتراشق بين قوى متنافسة.