أعتقد أنه لا يمكن المجادلة بالتفاوت واللا تجانس الثقافي المزعوم من أجل تسويغ هدم أمة من الأمم. الفوارق بين البشر كأفراد وبين المجتمعات البشرية سمة أساسية ارتبطت بالحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ وليست حكراً على اليمن. لا أستطيع الاقتناع بهذا المنطق لتبرير الانفصال. وإلا فقريتي متباينة بشكل كبير عن قرية بني العصري التي لا تبعد عنا أكثر من كيلو متر. هناك اختلاف طفيف في اللهجة وفي نمط الحياة وبعض المظاهر والخصال والطباع. ثم إن أكثر الأمم قوة الآن هي تلك التي تتميز باللا تجانس العميق، وهي تلك التي تتألف من أعراق وأجناس وديانات ولغات مختلفة. وبالتالي لا تنطلق من حقيقة أن قرية في عمران مختلفة عن قرية في لحج أو حضرموت لكي تنتهي إلى القول إن الوحدة لا تستند إلى أساس متين، وإنها باطلة لأن اليمن لا تمتلك مقومات وعناصر الدولة الأمة. هذا أسلوب مجافٍ تماما للمنطق والتجربة الإنسانية ولمفهوم الدولة الأمة نفسها. أفكر أن اليمن كمجتمع تاريخي وجغرافي موغل في القدم لديها ركائز بناء دولة أمة بأكثر مما لدى سويسرا أو اسبانيا وايطاليا ونيجيريا وبلجيكا وأثيوبيا، ناهيك عن الولاياتالمتحدةالأمريكية. «ففرنسا سلتية وايبرية وجرمانية. وألمانيا جرمانية وسلتية وسلافية. أما ايطاليا فهي البلد الذي تتعرض فيه الاتنوغرافيا لأشد حالات الارتباك. اذ تتقاطع فيها، داخل خليط متداخل، عناصر غولية وأتروسية وبيلازجية واغريقية، ناهيك عن العناصر الأخرى الكثيرة. كذلك الجزر البريطانية، فهي تقدم مزيجاً من الدم السلتي والجرماني بحيث يصعب جداً تعريف المقادير والنسب» بحسب المفكر الفرنسي ارنست رينان. الدين، كما يقول هنتنجتون، هو أهم وأعمق فجوة يمكن أن تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، أكثر من اللغة والعرق أحياناً. اليمن وبكل بساطة، وبعيداً عن الاختباء وراء العموميات، يدين بديانة واحدة ويتكلم لغة واحدة ويملك إرثاً ثقافياً واجتماعياً مشتركاً هنا ومتفاوتاً هناك. في الجانب السياسي عاش اليمن انقطاعات تاريخية كثيرة واتصالات، ولقد تفاوتت الخبرات الإنسانية تبعاً تفاوت المؤثرات الخارجية أحياناً. تجنباً لأي لبس أسارع إلى القول إنني إذا كان عليّ دعم خيار فك الارتباط فإن ذلك لن يكون إلا لسبب واحد هو الفشل في بناء الدولة القائمة على المواطنة والقانون والمؤسسات والعدالة. يمكن للجنوبي ان يقول انه يشعر بالتمييز السياسي والاقتصادي والظلم الاجتماعي، وإنه غائب عن الفضاء العام كثقافة وشخصية، بوسعه أن يتحدث عن الصيغة غير الملائمة لدولة الوحدة، يتحدث عن التصرفات الهمجية للمتنفذين الشماليين المحتمين بهذا النظام الذي هو الآن كما نأمل في طور الأفول. هذا المنطق أكثر تماسكاً ومعقولية لتسويغ فك الارتباط من ذلك الحديث عن تفوق الإنسان الجنوبي عن الشمالي، وأن الأخير مقضي عليه بالبقاء في مستوى الهمجي الذي لا علاج له. على أن ثمة إصراراً على تعريف روح الجنوبي من خلال منظومة القيم التي تمثلها مدينة عدن. وهذا تضليل ودجل لا تستقيم معه المعطيات الانثروبولوجية، وهو لا يستند إلى مؤشرات ومعايير واضحة، بقدر ما هو خلاصة وحكم مسبق مبني على الانطباع والتكرار. كما لا يمكن تعريف الشخصية الشمالية من خلال حاشد أو أرحب، المجتمعات في الأخير تتشكل من أفراد، وليست كتلاً بشرية وجدت هكذا منذ الأزل وستستمر هكذا إلى أبد الآبدين. من ينكر أن هناك تفاوتاً بين الجنوبي والجنوبي، وتفاوتاً شمالياً شمالياً يأخذ طابعاً مذهبياً أحيانا، لكن هناك قواسم مشتركة. أفكر أن ما يجمع رجل في تهامة بآخر في حضرموت أكثر بما لا يقاس من الأشياء والخصال والرموز الدينية والثقافية التي تجمع الرجل في حضرموت مع رجل في الضالع مثلاً أو أبين. لا تتحدثوا عن المدنية، لأنني سأطالب بتصوركم لماهية المدنية، أعطوني سلم قيم نستطيع من خلاله التعرف على جوهر وروح الشخصية الجنوبية في مقابل جوهر وروح الشخصية الشمالية. الاختلال الموجود سياسي بامتياز، الخطير هو أن تستغل هذه الفوارق في التقاليد الثقافية البسيطة سياسياً، وتغذّى لأغراض ومقاصد سياسية، إذكاء الشعور بالتفوق والتمركز حول الذات، والإحساس بالاستهداف والارتياب والكراهية. التفاوت موجود والتجانس موجود. نستطيع العثور على سمات وتقاليد ثقافية مشتركة كثيرة إن أردنا ذلك مثلما نستطيع العثور على نقاط اختلاف لا حصر لها، التافه منها والهام. لكن هذا التفاوت حقيقة يجب التعايش معها وتحويلها الى مصدر ثراء، ليس المطلوب تذويبها قسراً بل يفترض أن تؤخذ فقط بعين الاعتبار أثناء تصميم شكل الدولة ووضع القوانين وتنظيم حركة المصالح. لسنا أكثر تعقيداً وتنوعاً من بلجيكا. وقد كافح البلجيكيون للتوصل الى نظام فيدرالي شديد الغرابة التعقيد يلائم التعقيد الذي يطبع بلجيكا. أما الصور النمطية السلبية المتبادلة فهي شائعة في كل دول العالم تقريباً. خذ مثلا ألمانيا، فالصور النمطية راسخة بشكل عميق: «الشرقيون» عنصريون، وكسالى، ومثيرون للشفقة على أنفسهم بأنفسهم، في حين أن الغربيين أنانيون، ومولعون بالمال، ومتعجرفون. ومع ذلك لن نطلب من إخواننا في الجنوب الانتظار حتى نجرّب ما إن كان بمقدورنا العيش في ظل صيغة مختلفة للوحدة من خلال تصميم نموذج ذكي يتلافى القصور والأخطاء التي تركت كل هذا الكم من الظلم والصراخ في الجنوب والشمال على حد سواء. إعادة هيكلة الدولة وإعادة توزيع السلطة. لندعهم يحددوا خياراتهم سواء جرى بناء هذه الخيارات على أوهام أو على حقائق. يتفق لي أن أفكر بأن القضية الجنوبية ذات بعدين مركزيين: الأول بعد سياسي يتصل بالطريقة التي تمت بها الوحدة وإفرازاتها، ثم حرب 94 ومضاعفاتها من إحساس عميق بالإقصاء والحرمان والاغتراب، ونهب أراضي وسلب حقوق وتسريح ضباط وموظفين وغياب الهويات الجنوبية عن الفضاء العام المشترك. الثاني: بعد تاريخي حضاري يتعلق بسيرة حياة جنوب اليمن في مقابل سيرة حياة شمال اليمن، إلى أن انتهت حركة التاريخ بالشطرين أن يصبحا كيانين مستقلين كل منهما يتمتع بالسيادة، وفي لحظة ما اتفق الكيانان على الاندماج والذوبان أحدهما في الآخر استناداً إلى خلفيات وقواسم مشتركة تاريخية وثقافية وجيوسياسية. حقق شمال اليمن وحدته مطلع القرن العشرين عن طريق الغزو والضم والإلحاق، وفي ستينات القرن الفائت هندس البريطانيون وحدة اختيارية سلمية لكانتونات صغيرة مستقلة شكلت ما أطلق عليه الجنوب العربي، احتوى على بعض السلطنات والإمارات وليس كلها، إذ حافظت سلطنتا حضرموت مثلا على استقلالهما. لكن ضمن أحداث ثورة اكتوبر جرى أخيرا ضم بقية السلطنات بالغزو والضم والإلحاق أيضاً وتأسست جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بلا استفتاء ولا تفويض. هذا يعني أن وحدتي الجانبين كل منهما على حدة وحدة نخب فوقية فرضت خياراتها بدون استفتاء أو تراض، لكن عندما اندمج الشطران انطوى الاتفاق على مستوى من التراضي النسبي، وإن كان للطبقة السياسية العليا الكلمة الفصل. وفي أعقاب أول انتخابات كان يفترض ان تنهي مرحلة التقاسم والمناصفة ليصبح الاندماج كاملا وعلى أسس وطنية، اندلعت أزمة انتهت بحرب، تم فيها اجتياح الجنوب عسكريا، لكن بمشاركة فصائل جنوبية كانت ضحية التهجير منذ ستينات القرن الماضي وحتى نهاية ثمانيناته. عملياً تلاشت دولة الجنوب، مثلما تلاشت مؤخراً دولة الشمال وإن بقي بعض من مظاهرها الا أنها تهدمت في العمق. الباقي سلطة تحكم بهياكل وبنى دولة خداج رخوة هجينة تلبي حاجة الحاكم، بلا ملامح ولا خصال. وفي الطريق العكسي الى وضع ما قبل الوحدة، أصبح الجنوبيون يعانون أزمة تمثيل لقضيتهم، أي حامل سياسي يلعب دور الشريك في أي عملية سياسية تفاوضية. الحزب تفكك والدولة ذابت، والحراك متشرذم، والاختلالات التي طبعت عملية توحيد الجنوب في حقبة الستينات تلقي بظلالها حاليا في وقت يتطلع فيها الجنوبيون لفك الارتباط مع الشمال وأحيانا فك ارتباط بعضهم تجاه الآخر، وهذا الوضع يرفع من وتيرة تعقيد المسألة، ويجعل من فكرة الانفصال مستحيلة لكن فكرة التمزق الشامل تفرض نفسها بقوة. الشمال أيضاً لا يمتلك الآن إطاراً سياسياً يحتكر تمثيله، لا يوجد من يمكنه لعب دور الشريك مع الجنوبيين، لتوقيع الاتفاقات أو نقضها. بنشوء جماعة الحوثي، لقد انهارت وحدة الشمال أيضاً وعاد الشمال إلى ما قبل 1918، أي إلي مرحلة شبيهة بصلح دعان. اليمن ألان اقرب إلى البلد الخام، يمن ما قبل الدولة المركزية، وفي مقدورنا أن نصنع منه دولة أمة عظيمة، كما يمكن أن تشكل منه الفوضى مربعات منفصلة هزيلة لا تستطيع دفع الأذى عن نفسها. وأظن أن أمامنا خياران: إما أن نبدأ فورا في العمل على إعادة بناء الدولة بالتوافق وبصيغة تتجنب كل أخطاء وهفوات التاريخ، أو أن ندخل في حالة صومالية مزمنة، تنشأ كيانات صغيرة هنا وهناك، يحالف الحظ بعضها وقد يمنى البعض الآخر بالفشل، تتناحر جماعات وعشائر وتسود الفوضى إلى الأبد. حينها مثلما قال الدكتور ياسين سعيد نعمان لن نجد يمنا نختلف عليه لا جنوبيين ولا شماليين. مبدأ تقرير المصير يشمل الآن كل اليمنيين بلا استثناء، فلا يصح أن تمنح هذا الحق منطقة معينة وتمنعه عن منطقة أخرى. هذا كلام بدهي جداً ولا أزعم أنني جئت بجديد، لكنه من وجهة نظري السيناريو الأقرب إلى ما يمكن أن يحدث في ضوء المعطيات والمؤشرات الماثلة أمامنا.