كتبت قبل عام في هذا المكان عن العالم العربي أحمد زويل. كنت مبهوراً بالرجل وبالإنجاز الذي حققه والمجد الذي وصل إليه، وبدا في الجلسة الافتتاحية في منتدى الإعلام العربي في دبي العام الماضي عملاقاً وأسطورياً أكثر مما يجب، مزيج من العلم ومن نوبل ومن التواضع والبساطة يجعله يتجاوز البشر المزدحمين حوله بمراحل. أكتب للمرة الثانية عن الرجل وعندي استعداد للكتابة عنه مرة ثالثة ورابعة، وكنت قبل حصوله على نوبل لا أعرفه، ومثلي ملايين البشر حول العالم، غير أن للجائزة طريقتها في التعريف بأبطالها، إنها تقفز بهم إلى واجهة العالم وتظل تلاحقهم بالنور فوق مسرح الحياة بدون توقف. يوم الجمعة الماضي كان يوم توكل بامتياز، لقد دار مصباح الضوء الهائل لنوبل في اتجاه اليمن وسلط أضواءه الرهيبة في اتجاه توكل فرآها العالم في كل مكان، وتحولت خيمتها في ساحة التغيير والشارع الذي تقع فيه إلى مكان يحج إليه الصحفيون من كل مدينة. في تلك الأوقات كنت هنا في دبي على غير العادة، فخوراً وفرحاً «ومش داري بحالي»، استقبلت العديد من الرسائل الهاتفية والاتصالات المهنئة وكأني من فزت بنوبل، حتى تصورت أن الاتصال التالي سوف يأتيني من السويد لتحديد موعد حفل الجائزة. لا أحد من اليمنيين المغتربين إلا وتلقى تهنئة بنوبل، هذا شيء خارج المألوف، والعادة أننا تعودنا أن نتلقى التعازي خلال الأسابيع الماضية في القتلى الذين يسقطون في الساحات والشوارع، وتعودنا أن تأتي اليمن مقرونة بالإرهاب ولم يكن يخطر في البال أن يأتي ذكرها في الإعلام الدولي مقروناً بالسلام. صباح السبت كانت صورة توكل مطبوعة في الصفحات الأولى لكل جرائد العالم، وكان بعض اليمنيين المغتربين يقفون إلى جوار تلك الصحف والمجلات يلتقطون الصور التي لن تتكرر، وتبرع بعضهم بالتعريف بأنه من البلد الذي تنتمي إليه صاحبة الصورة، لأول مرة يشعر المرء وبصدق أنه يرغب في أن يصيح بصوت عال: أنا من تلك البلاد. كتبت على صفحة الفيس بوك بعد الإعلان عن الفوز بساعات أنني سعيد جداً بهذا الخبر، لم يحدث أن فاز يمني بجائزة عالمية بحجم نوبل من قبل، أنا سعيد لأن توكل يمنية ولأنها امرأة جاءت من قلب الساحات، وقلت إنني أرجو أن تساهم هذه الجائزة في لفت انتباه العالم إلى هذه المنطقة المنسية في جنوب غرب الجزيرة العربية، وأن تساهم في تحسين صورة اليمنيين ورغبتهم في احلال السلام، بخلاف الصورة السيئة التي يرانا فيها جزء كبير من العالم: مجرد دولة فاشلة يسكنها مجموعة من الإرهابيين والمواطنين المتخلفين. قلت ذلك لأن أغلب المجتمع الغربي ينظر إلى الفائزين بجائزة نوبل كأنبياء يمشون على الأرض، وهم يستطيعون التأثير في حدود معينة قد تزيد أو تنقص على صانعي القرار في الدول والمنظمات العالمية، ويمكن لهذا الفوز الاستثنائي أن يساعدنا ويساعد توكل في إنجاز أهداف الثورة اليمنية، وجلب الدعم والتأييد لها، على نحو لم يكن ممكنناً من قبل. لقد احتفلت كثيراً بهذا الفوز، كأني المعني الوحيد به، وشاهدت أفراح الشباب في الساحات، وتذكرت قصة الرجل المصري المقعد الذي يعيش على بيع عقود الياسمين في ساحة مسجد الحسين بالقاهرة الذي أجهش بالبكاء فور رؤيته للعالم زويل افتخاراً به، مصرّاً على إهدائه كل عقود الياسمين رافضاً أي مقابل مادي. مثل زويل للمصريين تبدو توكل بالنسبة لليمنيين، أغلب المصرييين الذين احتفلوا بزويل وبكوا من الفرح لفوزه، لم يكونوا يعرفون -كما قال زويل- ما حققه، لأنه لم يكن يعنيهم ذلك، كانوا يدركون شيئاً واحداً: أن هذا الرجل مصري، وأنه فاز بالجائزة، واستطاع أن يدخل الفرح إلى قلوبهم كما لو أن هذا الرجل واحد من أفراد عائلاتهم، «ربما ابنك أو أخوك أو عمك، وفي كل الحالات فأنت تريد أن تحتضنه وتضمه إلى صدرك». تذكرت أفراح المصريين في غمرة احتفالي بتوكل، وشعرت أثناء ذلك ببعض الوجع من بعض اخوتي اليمنيين، وهم قليل، كان العالم يتحدث بانبهار عن توكل وهم يفتشون عن أخطائها، ومن لم يجد فقد ذهب يفتش في ملفات الفائزين بنوبل للسلام من قبل توكل، ليقول لنا كم نحن مخدوعون بهذا الفوز! بالنسبة لي: هذا «الفرح الخادع» بالجائزة «على قلبي مثل العسل»، مادام وهناك الملايين حول العالم مؤمنين بهذا الفوز وتهانيهم لي لا تتوقف. وأظن أن فرح اليمنيين بفوز كاذب أفضل لهم من المآسي الحقيقية التي تجلبها الخسارات المؤلمة للبلد في كل المجالات. لقد تعود بعضنا اختراع قصص خيالية ينسب فيها أصل بعض المشهورين في العالم إلى اليمن، وقالوا «مارادونا أصله يمني» وربما «ميسي» من باجل أو مودية، نلجأ لذلك لأننا نفتقد أبطالاً حقيقيين بما فيه الكفاية، وعندما يصعد من بيننا بطل حقيقي، نبدأ بالتأتأة، و«الدعمام»، ويمتنع من يفترض أنه رئيس للبلاد أن يبعث بتهنئة، في الوقت الذي تأتي التهاني من رئيس أكبر دولة في العالم، كان اختباراً حقيقياً لصالح، لكنه طلع نذل. «شغل طباين» أحياناً، وفي أحيان أخرى حسد: «ليش هي وآنا لا»، وفي نهاية المطاف يستطيع كل فرد داخل هذه البلاد أن يعد الفوز نجاحاً شخصياً، ويحتفل بالجائزة مع أمه أو حبيبته أو بنته أو حتى جدته، حتى وان أختلف مع توكل، حتى وإن لم ترد على هاتفه كما تفعل بنا جميعاً، لديها الآن ما تحتج به وتعتذر. لقد دخلت توكل بهذه الجائزة إلى داخل كل بيت يمني، وأسرجت إلى جوار كل امرأة مصباح نور، ووضعت لكل يمنية تحت مخدتها مشروع للفوز تفكر فيه كل ليلة عندما تعود إلى فراشها، وأدخلت إلى قلوب اليمنيين المفجوعين دائماً بوطنهم سعادة مفاجئة، لكنها سوف تستمر. إني أتخيل أمي في القرية وهي تهتف لتوكل: «أنفدي راسك يا توكل، والله انك مَرَه». في الوقت الراهن فإن الجائزة لن تفتح طريقاً مغلقاً بالعسكر أمام شاب في الساحة يريد العودة إلى منزله، ولن تدفع له أجرة التاكسي أو «الدباب» ولا حتى ثمن «تخزينة يوم»، لكنها في المجمل استثمار هائل في التاريخ اليمني، لكل الجيل الذي شارك توكل النضال من أجل الحرية، ومن أجل السلام، ومن أجل الثورة، الجائزة ليست كل شيء، لكنها شيء عظيم. شكر كبير لتوكل، التي جلبت لبلادها ولكل اليمنيين معجزة الفوز بنوبل، وهي بعد لا تزال تشبهنا، تقع في الأخطاء البشرية، وترتكب الحماقات، وتجترح الانتصارات التي تشبه المستحيلات، هذا الذي اختارته طريق طويل وشاق ومتعب، ويحتاج إلى عناد وصبر وإرادة من حديد، وهي كذلك. تستحقين الجائزة يا توكل، وتستحق منك مسؤوليات ومهام كبيرة لا تنتهي، ليساعدك الله ويساعدنا جميعاً.