يكاد الأسبوع الثاني ينقضي منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2014 بشأن القضية اليمنية ولا مؤشر جدياً على بدء العمل لتطبيقه. نائب رئيس الجمهورية يطير إلى الولاياتالمتحدة الأميركية في زيارة تذهب بها التفسيرات والتكهنات مناحي شتى وقادة المعارضة يجوبون البلدان طلباً للدعم السياسي، فيما يتواصل حشد القوات وجلب الأسلحة أما المخولون بالإشراف على تطبيق القرار فلم يأتوا بعد. بدأ هذا المشهد المشتت يضغط على الناس ويزيد من هواجسهم القلقة. إنهم يريدون رؤية تقدم يحدث في صنعاء ليصدقوا أن بالإمكان تطبيق قرار مجلس الأمن إذ ليس دون هذا الخيار سوى الحرب. صار الجميع مؤمنين بهذا الافتراض تقريباً ويكاد يتحول إلى قناعة، يرسخها الانطباع بأن الرئيس علي عبدالله صالح لن يقدم على تنحية نفسه عن الحكم مهما تلقى من ضمانات أو نال من تنازلات. وينمي هذه المخاوف سفر النائب عبد ربه منصور هادي إلى الولاياتالمتحدة في ذروة انغماسه بتصريف الشأن العام ومهام الحكم. يتمنى كثيرون أن تكون مغادرة هادي إلى أميركا مقدمة لإعلان انشقاقه عن نظام صالح. ولشوقهم إلى تحقق هذه الأمنية فإنهم يتحدثون عن الحادثة كما لو أنها قد وقعت لكنها محاطة بغموض سينجلي قريباً. ويفسرها آخرون بأنها حيلة جديدة من صالح الذي في ظنهم أوعز لهادي بالسفر إلى الولاياتالمتحدة والإقامة طويلاً هناك كي يغيّب بذلك أداة رئيسة ترتكز عليها آلية تطبيق القرار الأممي مما يفقد الاتفاق إمكانية التنفيذ. أو أن رحلة هادي هي مهمة أوفده صالح بها في إطار محاولة أخيرة منه لإقناع الإدارة الأميركية بقبول التعديلات التي يريد إدخالها على الخطة الخليجية لنقل السلطة بما يبقيه حاكماً حتى إجراء انتخابات رئاسية. وكالة الأنباء الحكومية (سبأ) ذكرت أن سفر النائب كان لإجراء فحوص طبية اعتيادية في مدينة كليفلاند. وحيال كل هذه التوقعات، ليس من السهولة ترجيح إحداها على أخرى بسبب من شخصية النائب نفسه كما ليس حرياً الوثوق بالتبرير الحكومي للزيارة. فعبد ربه منصور هادي ليس الرجل الذي يقدم على مغامرة الانشقاق عن النظام بوصفه شخصاً ذا طموحات خفيضة لا تتجاوز الاستمرار في عيش فاره وتأدية واجباته على نحو دقيق، إضافة إلى أنه لا يملك إجابة كما لا يملك الآخرون عن سؤال ما بعد الانشقاق ومن سيفيد منه. وهادي أيضاً لا يملك البراعة السياسية وقدرة إقناع فائقة حتى يبعثه صالح في مهمة يرتبط بها مصير حكمه. ثمة رجال محيطون بصالح أكثر إحاطة بالسياسة الأميركية وأدهى من هادي بكثير كان الأجدى ابتعاثهم لهذه المهمة. بالرغم من النشاط السياسي الذي يبدو كسباق يخوضه الخصوم بصمت، أيّهم يحقق أعلى قدر من المكاسب خلال فترة قصيرة إلا أن ذلك لم ينعكس في شكل تطمينات للناس العاديين بعودة السياسة كما لم يمنع من مواصلة الاحتشاد للحرب وشراء الأسلحة. كان تدمير نحو ثلاث مقاتلات في قاعدة الديلمي الجوية ليلة الاثنين بعبوات مزروعة دليلاً قاطعاً على المضي في المسار العسكري بالوتيرة نفسها التي يتفاعل بها مسار السياسة. هو هذا المشهد المضطرب والمتداخل إلى حد الالتباس ما يخلق حالة تشويش جماعية، تجعل المعنيين المباشرين بأمر الانتفاضة (المحتجين في الساحات) والأشخاص المرابطين في منطقة الحياد يحجمون عن أن يجدوا في أنفسهم جواباً مقنعاً للمآل الذي يمضون إليه فيدخلون في حالة انتظار دون فاعلية. البشارة الجيدة وسط هذا المشهد هي اللقاءات المتوالية التي يجريها قادة المعارضة في المجلس الوطني مع مسؤولين في دول مهمة لليمن. التقوا مسؤولين كثيرين في روسيا على رأسهم وزير الخارجية سيرجي لافروف، ثم واصلوا مقابلة المسؤولين في الإمارات وعمان ومن المتوقع أن لقاءات مماثلة ستعقب تباعاً. لا يمكن التهوين من شأن خطوة مثل جذب قطب دولي فاعل كروسيا إلى مؤيدي التغيير في اليمن وترك نظام صالح يتخبط وحيداً وهو من يدرك الآن حجم خسارة حليف مهم في توقيت حرج.
حتى في الجبهة الداخلية، ستبدأ التصدعات في البروز بين صفوف الموالين للنظام حين يلمسون التداعي المتدرج له ويجدون أن زعيم النظام صار شخصاً عادياً مثلهم لا يكاد يجلس على أريكة واحدة في مواجهة مسؤول أجنبي. لقد هجره العالم وفق سياسة هادئة ومبدعة تظهر إلى أي حد هي السياسة ماكرة وقاتلة بلا نيران. حينها سيعي الذين يحتشدون وراء نظام صالح حاملين السلاح لقتل مواطنيهم المحتجين ضده أو هاتفين له في ميدان السبعين أنهم من طبقة البروليتاريا الرثة وفقاً لتصنيف الفيلسوف الشهير كارل ماركس الذي يزيد أن أفراد هذه الطبقة مستعدون لبيع أنفسهم بأبخس الأثمان ولا يعون مصالحهم وحقوقهم بل يقفون ضد من يكافحون لأجلهم. هذا ما يبدر اليوم تماماً من أنصار صالح الأكثر فقراً وأمية. وهؤلاء قد يكون موقفهم قابلاً للفهم إلى حد ما جراء أميتهم والاستغلال البشع لفقرهم، لكن ما ليس مفهوماً هو موقف المثقفين ورجال السياسة الذين ينحون طريقاً مماثلاً لنهج «البروليتاريا الرثة» حيال الانتفاضة الشعبية السلمية، فضلاً عن الشيوخ القبليين الذين يزعمون التحلي بالشهامة والرفعة ثم يقفون موقفاً معادياً للمحتجين العزل ويجهزون أتباعهم لقتلهم. فالمنتسبون إلى هذه الفئات واقعون أيضاً في إطار تلك الطبقة الرثة مهما ارتفعت مدخولاتهم وبرقت مظاهرهم.. وثقافتهم. فهم إما طفيليون أو انعزاليون أو «عمال متخلفون عن ركب عملية التغيير الثوري» طبقاً لتعريف لينين منظر ثورة أكتوبر البلشفية إحدى أعظم الثورات في التاريخ الحديث. ليس المطلوب أن يختفي طيف علي عبدالله صالح من المشهد السياسي اليمني واسمه من وسائل الإعلام الحكومية بل أن تغادر طريقة تفكيره وسياسته للشأن العام بوصفها أموراً مزرية، تنتمي إلى العهود البدائية وتشكل وصفة لإدارة نشاط العصابات لا الدول في القرن الحادي والعشرين.
الصورة لدمية على فوهة بندقية في مدينة تعز يوم 19 يوليو الماضي (رويترز).