تتابعت وتيرة الأحداث على الساحة السياسية اليمنية بشكل سريع وغير متوقع ابتداءً بقرار صالح الرضوخ مرغماً تحت تزايد وطأة الضغوط المحلية والدولية على توقيع المبادرة الخليجية في الرياض وما تعنيه بالطبع من أن يتم منحه قانون الحصانة ضد الملاحقة القانونية يقره مجلس النواب مقابل تخليه عن السلطة على الأقل بالشكل الظاهر للعلن، وانتهاءً بجديته الظاهرة حتى الآن في المضي قدما في التخلي عن كرسي الحكم من خلال رحلته الى الولاياتالمتحدةالأمريكية عقب حصوله على قانون الحصانة المثير للجدل وما صاحب تلك الرحلة من مراسم توديع داخل حزبه تخللها إلقاءه خطاب الوداع الأخير مستجدياً من خلاله الشعب وطالباً إياه السماح والغفران إزاء ما قد يكون اقترفه من ذنوب أو أخطاء صاحبت فترة حكمه إن هي وُجدت بحسب قوله، وذلك بعد أن استخدم كل ما بوسعه من قوة متاحة بين يديه لقمع شباب الثورة، وتحاشياً كما يبدو لما قد يؤول إليه مصيره في حالة عدم قبوله بالمبادرة الخليجية وهي التي تعتبر بالنسبة له طوق النجاة الأخير بعدما تأكد له استحالة عودة الأمور إلى ما كانت عليه لاسيما وأنه قد شهد بأم عينيه النهاية المأساوية لصديقه القذافي الذي كان يتمتع بالقوة العسكرية الهائلة والذي لاقى مصيره المحتوم مقتولاً على أيدي الثوار من أبناء شعبه ولم تشفع له كتائبة ومرتزقته في إنقاذه من غضبة الشعب. إن رضوخ صالح للأمر الواقع واستسلامه في آخر المطاف لم يأت من فراغ ، بل كان نتيجة لتضافر مجموعة من العوامل التي تكالبت مع بعضها البعض لتحاصر الرجل وتقذف به خارج الطاولة، وبكل تأكيد فإن تزايد حدة الزخم الثوري الشعبي يعتبر العامل الرئيسي والحاسم في ذلك بالإضافة إلى عامل آخر هام هو تقاطع المصالح الإقليمية والدولية الإستراتيجية في اليمن مع مصالح الثوار الشباب حول ضرورة التخلص من نظام صالح كونه المطلب الأساسي للشباب الثائر والبديل الأفضل بالنسبة لأصحاب تلك المصالح في حماية مصالحهم الإستراتيجية في اليمن، وهذه نقطة مفصلية ينبغي الوقوف عليها ملياً كونها ساعدت إلى حد كبير في حلحلة عُقد خيوط اللعبة السياسية في اليمن. إن الدعم الدولي الذي حظي به الملف اليمني خصوصاً من الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها في المنطقة كالعربية السعودية والذي يقوم على إعطاء الأولوية لحماية مصالح تلك الدول في اليمن بأي طريقة كانت وتحت أي مسمى حتى ولو استدعى الأمر التضحية بصالح الحليف الإستراتيجي لتلك القوى في اليمن وهو الذي طالما تفانى وتعاون معهم كثيراً وخدمهم لعقود خصوصاً في ملف الإرهاب الخ، يأتي في الوقت الذي بات فيه اليمن يشكل مسرحاً مكشوفاً لصراع إقليمي ودولي لقوي خارجية فاعلة كالولاياتالمتحدةالأمريكية والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى تتسابق فيما بينها على السيطرة على اليمن والمسرح السياسي فيه، هذا إذا ما أضفنا ملف القضية الجنوبية إلى ذلك والذي لا يخلو هو الآخر من دخول قوى دولية في الخط مستغلة أخطاء صالح السياسية الفادحة في التعامل مع ذلك الملف، الأمر الذي وضع المجتمع الدولي أمام خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول الإبقاء على حليفهم صالح وتجاهل مطالب الشارع اليمني وهو ما حاولوا جاهدين بلوغه وتحقيقه بداية انطلاق الثورة اليمنية سواءً من خلال غض الطرف عن ما يدور في اليمن من جرائم ارتكبها صالح بحق الثوار أو حتى تقديم الدعم العسكري ولعل الجميع يتذكر بعد حادث جامع النهدين كيف أن الجارة السعودية انهالت بالمعونات العسكرية من خلال إرسالها لعربات مدرعة ومعدات عسكرية متنوعة للحرس الجمهوري الذي يقوده نجل صالح أملاً منها في إخماد جذوة الثورة المتقدة ووأدها في مهدها، والخيار الثاني هو التضحية بصالح والرضوخ لمطالب الثوار اليمنيين كونها واقعاً يفرض نفسه ولا يمكن تجاهله، واستبداله برجل آخر يكون محل إجماع جميع الأطياف السياسية على الساحة اليمنية يضع في سلم أولوياته خدمة تلك المصالح الدولية في اليمن وهو ماتم بالفعل حيث وقع الاختيار على الخيار الثاني كون الخيار الأول كان مستحيلاً والسير فيه غير مجدي ويُعد مضيعة للوقت، وذلك من خلال حسبة سياسية بسيطة وازنت بين كفتي تلك الخيارات وأخذت بعين الاعتبار كل المعطيات على أرض الواقع، ولعل الجميع قد لاحظ ذلك التحول الكبير في الموقف السعودي والذي مال إلى ترجيح كفة هذا الخيار الأخير وبقوة في الأشهر الخمسة المنصرمة من خلال محاولات المملكة العربية السعودية احتواء الصراع في اليمن وتهدئته بشتى الوسائل الدبلوماسية لتثمر تلك الجهود عن توقيع المبادرة الخليجية بالرياض، وذلك بالطبع ليس حباً في حدقات عيون أبناء السعيدة بقدر ماهو حفاظاً على مصالح آل سعود في اليمن خصوصاً وهم الذين باتوا يستشعرون الخطر الداهم من اتساع رقعة المد الفارسي وذلك من خلال التوسع الهائل للحوثيين وبسط سيطرتهم بقوة السلاح على مساحات شاسعة من الأراضي اليمنية، لذا فإن تلاقي المصالح الإقليمية والدولية مع مصالح الثوار قد خدم الثورة اليمنية بشكل أو بآخر وعجل برحيل صالح، وكما يقول المثل (مصائب قوم عند قوم فوائد). قد نختلف على ماهية الأسباب المساعدة التي عجلت برحيل المشير صالح وقدوم المشير هادي، ولكننا نكاد نجمع على أن عهد صالح وبحسب كل المؤشرات حتى اللحظة قد بدأ يلفظ أنفاسه الاخيرة ويتلاشى شيئاً فشيئاً إلى أن يغيب في الأفق تاركاً الميدان السياسي لفارس آخر يصول ويجول فيه وذلك بعد أن تلقى جسد حصان صالح النحيل مجموعة متتابعة من الطلقات القاتلة أصابته بجروح بالغة في بداية الثورة الشعبية كادت أن تودي بحياته حاول جاهداً بكل ما أوتي من قوة أن يتماسك ويصمد في وجه تلك الجراح خصوصاً بعد جمعة الكرامة الدامية وما صاحبها من انشقاقات داخل المؤسسة المدنية والعسكرية كان أخطرها انشقاق اللواء علي محسن الأحمر والذي كان يعتبر إحدى الدعامات الرئيسية لنظام صالح، إلا أن تلك الجراح كانت بليغة للدرجة التي لم تسعفه من النجاة وأدخل على إثرها إلى غرفة العناية المركزة في مستشفى يرعاها المجتمع الدولي ويشرف عليها كادر طبي مكون من أطباء جُلهم من الخليج وبإشراف الطبيب بن عمر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة والذي كثيراً ما أحتار هو وفريقه الطبي في اختيار العلاج المناسب والذي يخدم مصالحهم كما أسلفنا قبل مصالح الشعب اليمني، ولكن لم تكد تمضي فترة ليست بالطويلة على تلك المحاولات حتى خرج لنا الأطباء المشرفين على الحالة شبه المستعصية برؤية سياسية على شكل مبادرة تبنتها دول الخليج، تقوم على أساس اقتسام الميدان بالتساوي بين فرقاء العمل السياسي باليمن (الحصان والفرس) وبحيث يستعيد الحصان عافيته تحت إمرة فارس جديد شريطة أن يُعقد قرانهما بمباركة دولية أممية على إثرها يُفسح المجال أمام الفرس لكي تسرح وتمرح في الميدان السياسي إلى جانب الحصان الذي لم يعد نافعاً البتة للقيام بمهامه كونه يلفظ أنفاسه الأخيرة. في بادئ الأمر اعتقد الكثيرون أن هذه المبادرة وما خرجت به من رؤية على إثرها يتم تقاسم الميدان، خيانة لدماء الشهداء كونها تتضمن القبول بتسوية سياسية مع الشيطان والذي لولاه وحكمه العائلي المستبد ما اندلعت الثورة، وهو ما يعطيه الفرصة بحسب رأيهم أن يستعيد عافيته أو على الأقل جزء منها الأمر الذي يجعل الحصان هو الرابح الأكبر من هذه التسوية، إلا أن المتتبع لمجريات الأحداث في اليمن سيجد أن معطيات الواقع تقول برؤية تختلف كلياً عن تلك الرؤية التي يتمسك بها أولئك، خصوصاً وأننا نعلم جيداً أن حياة الحصان مرهونة ببقاء فارسه المغضوب عليه في ظل وجود حزب غير منظم ومعظم منتسبيه هم أصحاب المصالح، ولذا فإن خروجه من الحلبة - أي الفارس- يعني النهاية المؤكدة والحتمية للحصان ومن يشجعه، الأمر الذي يمهد الطريق أمام الفرس ويجعلها في طريقها إلى الاستحواذ على حلبة السباق كاملة كونها تحظى بتشجيع الغالبية العظمى من الجماهير جزء منهم كان في الأمس القريب بوق مشجع ومخلص للحصان الصريع، ولعل ما يؤكد هذه الرؤية حقيقة أن الحصان بالفعل قد تلقى طلقة قاتلة وأخيرة أودت بحياته إلى الأبد انتقل بعدها إلى ثلاجة الموتى ولم يتبق إلا حمل النعش ودفنه في جنازة كبيرة يتم من خلالها الإعلان الرسمي ببدء مرحلة جديدة وهو ما نأمله أن يتم بعد 21 من فبراير والذي تنتظره الملايين بفارغ الصبر كونه يحمل لأبناء السعيدة بارقة أمل قد تعيد البسمة المفقودة لعقود خلت، إن قرار صالح نهاية يناير مغادرة اليمن إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية باحثاً عن علاج نفسي يداوي نفسه المكسورة أمام إرادة الشعب الثائر قبل أن يبحث عن تدخل جراحي يحسن من صورته المخدوشة والمحروقة أمام العالم، يُعد بمثابة الرصاصة الأخيرة، رصاصة الرحمة والتي أطلقها صالح من مسدسه الخاص المنتهية ذخيرته على جسد الحصان المحتضر والمثخن بالجراح عله يريحه من عذاباته وآلامه المصاحبة للاحتضار أو ربما ليفوز هو بالسبق في قتله ليمارس هوايته في القتل الذي عودنا عليه دائماً خصوصاً وأن يديه مكبلتان بفعل رقابة المجتمع الدولي له عن توجيه تلك الطلقة إلى جسد الشعب الثائر.