كنت أحدثه بانجليزية متلعثمة، والأغرب إيماءاتي الخاصة، حتى أن أحدهم علق؛ جمال لديه إشارات خاصة للعربي، وأخرى للانجليزي. لذلك تفسير بسيط، مشكلة الخطاب، تعيدنا إلى ما قبل الكلام. لوك بريطاني نصفه أمريكي من ناحية الأم، وجوده هنا يحوم حول ساحة التغيير، عين ترى ما يدور، يلتقط صور، يبحث عن قصص. يفكر- يخطط، كما قال، بالكتابة عن شهيد قُتل في صنعاء- ينتمي لمحافظة إب، كتب لعائلته وصية، عن ديونه، وربما عن أشياء خطرت بباله. لوك جاء من أقصى العالم، يعيش في مدينة أمريكية صغيرة، بقلب بريطاني. أخبرني، أن أكثر ما جذبه قبل زيارته هنا، الإيقاع الصوتي لليمن كمفردة. نفخة هواء من الحنجرة ثم دفعة من الشفتين، تنتهي بسقف الحلق. ثلاث حركات تشكل موسيقى صوتية جذبته. لكن عندما نقولها لا تشكل مجرد احتمالية أغنية، بل علاقة مرتبكة نظل محبوسين فيها. تشكل هاجسنا نحن؛ هل هي مجرد امتيازات سياسية تكفي البعض حد التخمة، أو أنها أرض محتملة لعيشنا. وبين تلك الصورتين تتلاشى موسيقى الصوت، في واقع منهك وصور تثير حمى أوهامنا. حين يأتي انجليزي، أو أوروبي فانه يراها من مرآة واقعه. لكل شخص طريقته في بناء صلته مع العالم. لكن ثقافتنا ترفض هذا النوع من الامتياز الفردي. هل أبدو لكم جاداً، وأنا افتتح كتاباتي هنا عن اليمن، ليس كانبعاث صوتي فقط، بل كحلم غريب الانبعاث، يأتي أحياناً من نزعات ملوثة. يقول الفيلسوف الانجليزي هيوم إن الانطباع يبدأ من التجربة الحسية. بالنسبة لبريطاني يأتي هنا، سيرى كل شيء غريب عن حواسه. وهكذا ستتولد انطباعاته من كل ما يبدو غريباً وغير مألوف؛ أي من تلك النظرة الملوثة بانطباعات عميقة داخل حواسه. لم نتحدث كثيراً عن تلك الانطباعات الخاصة، والمتفاوتة عن وطني. أما هو فعندما ذكرت له فيلم يتحدث عن الملك هنري، والد اليزابيث الأولى، نطت روحه الانجليزية، رائحة الانتماء للتاريخ، ولجغرافيا أرضه. وها هي تظهر قاعدة غير مشتركة بيننا، تاريخ بلدينا، جغرافيته، فجوة الحاضر ما بيننا. تاريخ يتسم بروح إمبراطورية لم تكن تغادرها الشمس، وأرض أثقلتها النزاعات الصغيرة، شكلت افتراض لوطن يحاول أن يكتمل.
بالطبع كيف يمكن لتلك الحركة الصوتية أن تتشكل فوق بحر من الظلام. فوق ليل صنعاء المضطرب بأصوات مولدات صينية تنتشر كالسرطانات. لا يمكن أن يقوم جزء من مجتمع متحضر، بقطع الكهرباء وتخريب بنيته التحتية تحت أي داعي من الدواعي، لكنه يحدث هنا، لان واحدة من القبائل لديها مطالب معينة. كنت أظنني سأخبره عن الملكة أروى كمقابل لليزابيث الأولى. أروى رفضت زوجها قائلة لا تحكم امرأة تُراد للفراش، فيما قالت الملكة الصهباء «أنا تزوجت بريطانيا» معلنة موقفها النهائي من الزواج. لكن الأولى تضاءلت مملكتها، حتى تلاشت بعد وفاتها، بينما الأخرى ذهبت بعيداً بعد أن حطم أسطولها نظيرها الاسباني. صورة تثير شكل وطن أكتمل وآخر لم يكتمل بعد. هل أغور بعيداً في الماضي، بحثاً عن أسطورة بلقيس، عن مملكة سبا أو حمير، وأخبره أنها سُميت أرض الآلهة، ومنها مُنح العالم شكل العبادة عبر البخور. لم أكن أحاول التعلق بزيف الوطني المغالي، ولم تكن بيننا مباراة في هذا الأمر. كنا نتحدث عن أمور أخرى، مثلاً الأدب. لم يكن يعرف أحد أعظم روائيي الانجليز هنري فيلدنج، وأخبرته أنني للأسف لم أحصل على رواياته مترجمة. قال يشعر بالاعتزاز أن لغته تمنحه هذا الكم من المعرفة. يمكنه الإطلاع على أي شيء. بينما كنت أتندب بالفعل على لغة فقيرة، تحتوي ترجمات محدودة. وفي المقابل هناك ثقافة فقيرة من كل النواحي. فمازلنا مأسورين بالبلاغة والرطانة. مع هذا من الناحية الفردية، حدثته مقتبساً مقطعاً من رواية لكاتب بريطاني، تصف شخصين يتحدثان، ويغني أحدهما وهما يسقطان من السماء، تنتثر حولهما أشلاء الطائرة التي كانوا يسافرون عليها، بعد انفجارها فوق القنال الانجليزي. وإن أخبرتكم أن المسألة أثارت دهشته، فذلك لأنه لن يتصور وجود يمني لديه هذه الاهتمامات. أتذكر، عندما التقيت لبنانياً في مدينة عربية قبل ما يزيد عن عشر سنوات. وكنا نغني أغاني عربية. سألني: هل يبيعون هذه الأغاني عندكم. شعرت بالأسف، غير أن نكتة مرحة تشكلت أيضاً. من وراء ذلك الصوت، تلك الحركة الصوتية لليمن، تختفي مئات الأشياء الملتبسة. وكنت أنتظره أن يسألني هل توجد لديكم سيارات. ما الذي يتصورونه عنا. هل نحن فقط تلك الوجوه المنتفخة بكرات القات، مدمني تعاطيها. صور المسلحين القبائل، وهم يظهرون بوجوه ذابلة. عادةً يعطي اليمني انطباعاً سلبياً. فمثلاً في مصر، هناك نكتة تقول انهم يعرفون اليمني من ليبل الكوت العالق في الكم. تفاصيل صغيرة نحتاج لتغييرها.
مؤخراً تظهر أشكال أخرى؛ أصوليات متعطشة لإثارة زوابعها المخيفة. مقاتلي قاعدة، خروج مناطق عن سيطرة الحكومة، تمرد في الشمال، وحركات انفصالية في الجنوب. ومن وراء كل هذا، نرى هذا الوطن غير المكتمل. في المقابل تظهر لنا أصوات تدعو للتغيير، حتى لو كانت غير واعية لشكل التغيير الممكن، أو لكيفية حدوثه. فهناك إمكانية للعثور على هذا الوطن، لكن كيف؟ سنظل نسأل دون توقف. وبين وقت وآخر يثور الخوف بأن نفقده، ليصبح مجرد صوت يأتي من بعيد. بالتأكيد اليمن أكثر من مجرد انطباعات، أو حواس. لا يمكن احتواءها بامتيازات تحاول مراكز قوى الهيمنة عليها، كما تحاول جماعات أًصولية اغتنامها.