تبدو المواقف المعلنة من فصائل وجماعات محلية في شكلها المباشر أنها متبرمة من الانتفاضة الشعبية السلمية وفق الفهم البسيط لدى أي متحمس للانتفاضة واشترك في نشاطاتها على مدى عام كامل. غير أن مواقف تلك الجماعات في أصلها لا تناصب الانتفاضة العداء ولا تتذمر منها بل يفترض أن تكون ممتنة لها لأنها أزاحت خصماً مشتركاً لم تفلح وسائل المقاومة التي اتبعتها منذ سنوات في إزاحته لكن هذه المواقف تكتسي بطابع ظاهري منفعل وغير موفق مما يساعد في إرسال إشارات غير مطمئنة إلى باقي شركاء الانتفاضة.
برزت جماعة الحوثيين التي تتخذ صعدة معقلاً لها وفصائل متشددة في الحراك الجنوبي في طليعة المعارضين لإفرازات الانتفاضة الأولية إضافة إلى تجمعات ليبرالية ونشطاء متشددين في الانتفاضة الشعبية ممن أسهموا في إطلاق شرارتها أو تفانوا في مؤازرتها فتماهوا في خيال رومانسي عن أنها حل سحري وحاسم في إسدال الستار على الحقبة الماضية بعملية فورية ثم تبين لهم أن إنجازاتها تتقاصر كثيراً عن تلك الأحلام.
ولكل واحد من هؤلاء مخاوفه أو تحفظاته حيال الواقع الوطني الجديد الذي أخذ في التشكل إثر إطلاق العملية السياسية المنبثقة عن اتفاقية نقل السلطة المرتكزة على أفكار خليجية وأميركية وأطراف يمنية.
القاسم الجامع بين مخاوف جماعة الحوثيين وفصائل الحراك الجنوبي المتشددة هو الشروع في تفكيك بنى نظام علي عبدالله صالح السياسية والاستبدادية القهرية بما يشتمل عليه من مغزى متصل اتصالاً مباشراً بمبرر نشوئهما وازدهار نشاطهما.
بعبارة أخرى فإن تفكيك المنظومة القهرية التي أفرزت بغشمها جماعة الحوثيين والمشاريع المتشددة لدى فصائل في الحراك يعني سقوط ورقتهما الأخلاقية التي كانت تنبع أساساً من خطايا نظام الرئيس علي عبدالله صالح بحقهما وكذا سقوط الحجة المنطقية لاستمرار نشاطهما غير الخاضع لمقتضيات العضوية الوطنية.
يبرز الآن بوضوح أن هذين الطرفين المهمين في البناء الوطني يعملان باجتهاد لترتيب وضعيهما بما يتلاءم مع العهد الجديد الذي يُفترض أنه سيغير معالم البيئة الماضية التي وفرت لهما السند الواقعي والأخلاقي للتصرف وفق أي هوى يريدان.
هما لا يعاديان الانتفاضة الشعبية كما يردد كثيرون لكنهما سيتشبثان بمبررات تمنع مسً تركيبتهما ومصالحهما التي تكونت بعيداً عن القالب الوطني الواحد، فالحوثيون دفعوا بأنصارهم إلى ساحات الانتفاضة دون مواربة. وفصائل الحراك المتطرفة قالت إن الانتفاضة شأن يخص المواطنين في مناطق الشمال ولا تعنيها.
ترجع هذه الرهبة لدى الحوثيين والفصائل الحراكية المتشددة من التحول المرتقب إلى حالة من الوحشة، نشأت خلال نصف عقد وتراكمت بفعل العزلة التي فرضاها هما على أنفسهما نتيجة الخطاب الحاد والمنطلقات الفئوية ومخاصمة كل الأصوات الناقدة.
وساعدت المصادمات التي وقعت أخيراً في عدد من ساحات الاحتجاج كثيراً في تغذية هذه الرهبة وتنميتها إلى حد العداء الصريح ونزع الثقة تماما. كان الحوثيون ونشطاء في فصائل الحراك طرفاً في تلك المصادمات.
فضلاً عن أن هذه الوحشة هي شعور طبيعي يعتري أي جماعة، تنطوي على قناعاتها الفئوية وتعزل نفسها عن الجسم الوطني الواحد. ويكمن الحل في تخليصها من عزلتها و طمأنتها عبر سلسلة من الإجراءات الوفاقية والتصالحية لا دفعها إلى مزيد من التباعد.
جماعة الحوثيين بصرف النظر عن شعاراتها السريالية والمنفصلة تماماً عن الواقع إلا أنها تثبت باضطراد أنها جماعة برجماتية، تمارس سياسة حذرة إلى حد الريبة من كل شيء ومثقلة بأغلال السيطرة التي تبسطها الجماعة على منطقة واسعة وأنصار مجانين، مستعدين للإيمان بأي طرح.
لكنها ستكون مستعدة للذهاب بعيداً في تقبل الواقع الجديد لو ضمنت ترتيب وضع مرضٍ لها. إلا أن هذا الوضع يصعب تصوره الآن بالمقارنة مع النفوذ المهيمن الذي تفرضه على محافظة صعدة ومناطق مجاورة.
سيتضح للحوثيين في الفترة الراهنة أن النفوذ الذي بسطوه بالقوة سيمثل عبئاً عليهم بقدر ما كان في الماضي عامل تفوق في صد حملات النظام العسكرية لإخضاعهم، إذ سيعزٌ عليهم أن يتخلوا عن إدارة مناطق شاسعة ومخزون كبير من السلاح .. وصيغة محكمة من الأفكار والوسائل المادية، يستخدمونها في صياغة عقيدة المجتمع المحلي هناك.
لذا، يستبد الشوق بأي مهتم بالمسألة الحوثية إلى أن يجيب الحوثيون أنفسهم عن الوضع الذي يريدونه لجماعتهم في ظل العهد الجديد، جواباً خالصاً من ذانك التعويم والسياسة التي تطغى على تصريحاتهم مع التفريق أن هذا ليس تخييراً باتجاه تلبية رغبتهم بحدودها الكاملة إنما لمعرفة أي مستقبل يتصورونه لأنفسهم.
ومع ذلك، فلابد على المؤتمر الوطني المقرر في الجزء الثاني من الفترة الانتقالية التي تلي اختيار رئيس انتقالي للبلاد أن يبحث عن حل إبداعي لمسألة صعدة بمفهومها الوطني العميق سواء ارتبطت بالحوثيين أو بغيرهم خلافاً للحلول الجاهزة من قبيل الدعوة المستهلكة لهم إلى إنشاء حزب سياسي واختزال الحل في هذه الجزئية.
كما سيكون من دواعي التطمين لجماعة تقدم نفسها على أنها ممثلة لقسم من المواطنين أن يتم تجنيبها الضغط الإعلامي والنفسي والنظر إلى قضيتها برؤية عادلة خصوصاً من خصومها الأيدلوجيين.
أما فصائل الحراك التي برزت في 2007 قوة أساسية في معارضة نظام علي عبدالله صالح و«التمييز لصالح الشمال» على حد سواء فهي مشتتة إلى أقصى مدى. وتتنازعها رغبات غير مستقرة بيد أن المتطرفة منها تستقر حالياً على رفض أي خيار دون الانفصال فيما تتفاوت المعتدلة في مطالبها بين الفيدرالية وصياغة جديدة للوحدة.
تؤثر عوامل متعددة في مواقف الحراك، بينها قادة الخارج الذين يبرهنون باستمرار أن جزءاً كبيراً من نشاط الحراك في الداخل هو ترجيع لأفكارهم وأن بإمكانهم ضخ الدعم الكافي لصبغ توجهات الحراك وتقلباته برؤاهم ورغباتهم.
وداخلياً هناك عناصر سيئة في الحراك، يستهويها العنف وتتملكها روح عدائية مقيتة بوسعها أن تفسد كل مسعى حسن أو رؤية موضوعية تجاه القضية الجنوبية وهي نفس العناصر التي صعرت خدها للانتفاضة الشعبية وتتعامى عن كل دلائل حسن النية التي يبديها المجتمع في مناطق الشمال والمخطئون بحق الجنوب.
علاوة على ذلك، تتجلى معضلة الحراك العملية في عقمه السياسي الفادح؛ عقم سياسي يبرز في فرعين: الأول رفض قادته الضمني للتعاطي السياسي بشأن القضية الجنوبية وحسم الحل في تصور مسبق لديهم غير قابل للتفاوض السياسي، يقوم على أنها قضية «احتلال» عليه أن يرحل لتزول المشكلة من فورها.
والثاني أن الحراك الذي يدخل عامه الخامس لم يفرز خلال هذه المدة الطويلة ساسة جدداً أومهمين، سواء من الشبان أو الكبار، فغالبية قادة الصف الأول فيه إما عسكريون قدامى أو مسؤولون سابقون في دولة الحزب الاشتراكي اليمني التي حكمت الجنوب قبل الوحدة. ويكاد تعاملهم مع القضية الجنوبية يقتصر على أساس العصبية الجهوية كزعماء تعبئة فقط.
تظهر الأصوات السياسية الجيدة والمعتدلة داخل الأحزاب السياسية لكنها تحجم كثيراً عن التعبيرات الواضحة بفعل ترهيب ثقافي نشره القادة المتطرفون إلى استدعاء النبذ الاجتماعي وتخوين الساسة المخالفين.
وهذا الأمر يقود إلى عامل تأثير آخر في مواقف الحراك: إنه التفتت الداخلي أو منازعته لنفسه بحثاً عن أفكار وأتباع خالصين تماماً فأدى به هذا الهوى إلى معادة الأحزاب السياسية والاشتراط على أعضاء الأحزاب الاستقالة منها في حال أرادوا الاشتراك في قيادة الحراك.
يملك قادة الحراك قضية بمدلولها الكامل لكنهم يسيئون سياستها على نحو جلي. وكبر القضية مؤشر أيضاً على التحدي الذي ينتظر حكومة الوفاق والمؤتمر الوطني في توفير أرضية جاذبة للتفاوض الوطني حولها ثم الوفاء بما يقرره المؤتمر الوطني بشأنها.
مخاوف الحراكيين وحتى المجتمع في الجنوب من المرحلة المقبلة أكثر تعقيداً مما لدى الحوثيين إذ لم تعد علاقة ارتياب بل قناعة، ترى في أي تصرفات للأطراف الأخرى خدعاً وتضليلاً. وزاد في ترسيخ هذه القناعة حرب صالح مع حلفائه على الجنوب في 1994.
في سياق آخر ذي صلة، تأتي تحفظات الجماعات الليبرالية والوطنيين المتشددين على مخرجات الانتفاضة انطلاقاً مما يرونه نكسة للتطلعات العريضة التي كان يُخيل إلى غالبية المحتجين في البداية أن بالإمكان تحققها كما جرى في تونس ومصر، قبل أن تعمق الصيغة الشكلية لانتخابات الرئاسة الانتقالية غضبهم.
ويرى الليبراليون والوطنيون المتشددون أن اتفاقية نقل السلطة قد جرى إملاء مضامينها إلى حد فج وتدخل مطلق في الشأن اليمني. يتلاقى هؤلاء مع الحوثيين في هذا المأخذ.
يمكن تسمية أعضاء المجموعتين الأخيرتين بأنهم حالمون مثلما كان معظم أنصار الانتفاضة في البداية قبل أن يتخلصوا تدريجياً من عذوبة أحلامهم على وقع الصعوبات التي تبدت تباعاً، وهو تصرف مريح.
ولا تشكل تحفظات الأخيرين تحدياً كبيراً بفضل وعيهم وإخلاصهم النزيهين للانتفاضة غير أنهم حساسون إلى حد كبير مما يُخشى أن يؤدي إلى تجزئة قضية الثورة بمفهومها الشامل إلى إشكالات صغيرة، تبرر لهم الاستمرار في «الثورة» حتى تصير ثورة لذاتها.