(1) في أكثر من مقال خلال الشهور الأولى لثورات الربيع العربي؛ أشرنا إلى ظاهرة تناقض المواقف السياسية للدول الإقليمية والكبرى تجاه ثورات التغيير العربي التي بدأت بتونس وامتدت لشمل خمس دول عربية. وكان ملخص الكلام أن هذه الدول لا تبني مواقفها (دائما) على معايير العدل والحرية والعدل الأخوي والإنساني؛ بقدر ما تحدد سياساتها ومواقفها مصالحها الإستراتيجية. ولذلك لم يكن غريبا أن تتفاوت المواقف من عدم التأييد إلى التأييد الخجول إلى التأييد الجارف أو الرفض الصريح أو المبطن أو السكوت!
لا جديد في مثل هذه الأعذار فهذا هو حال السياسات الدولية؛ مع فارق أن البعض يغلف مواقفه بقيم ليبرالية أو دينية لكن المحصلة واحدة في الأخير.. لكن الأحداث الدامية في سوريا والبحرين نقلت هذه التناقضات في المواقف من الأنظمة والقوى الدولية إلى القوى الشعبية ذات المصلحة في التغيير، وتحولت إلى خلافات عميقة وتبادل للاتهامات بالعمالة والخيانة واللامبدأية!
(2) صرخات الاستنكار وادعاء البراءة التي يطلقها البعض تعاطفا مع النظام السوري ورفضا للثورة الشعبية ضده، بحجة أن التأييد الخارجي الذي تلقاه وراءه أمريكا وإسرائيل والسعودية وقطر وقناة الجزيرة، هذه الصرخات تصدر عن طرفين؛ الأول مجموعة صغيرة من اليساريين العائشين خارج نطاق التاريخ.. والآخر هي المجموعة الأكبر التي تبرر موقفها بمبررات نضالية وثورية يختفي تحتها (تعاطف مذهبي).
ما يلفت النظر قبل كل شيء أن رأس النظام السوري أعلن للغرب – تماما كما فعل قبله القذافي ومبارك وعلي صالح- أن ما يحدث في سوريا يقف وراءه (الإسلاميون الأصوليون)، وفي محاولة يائسة لاستعطاف الغرب العلماني وصف ما يجري أنه صراع بين القومية العربية العلمانية والأصولية الدينية!
محاولات الاستعطاف هذه ضاعت في الهواء.. فلم تجد لها آذانا صاغية لدى الغربيين.. لكنها كشفت انتهازية أحد الأطراف – دولة وأحزابا- الذي يقدم نفسه عدوا للغرب الصليبي والعلمانية ويملأ الدنيا: الموت لأمريكا وإسرائيل ثم هو يدعم نظاما يقر رئيسه علنا أنه علماني ويحاول التقرب للغرب بتقديم (إسلاميين) كبش فداء! والأكثر انتهازية هم هؤلاء الليبراليين وأنصار الدولة المدنية العلمانية الذين اصطفوا مع قوى دينية طائفية لتأييد النظام السوري، وذرف دموع التماسيح على الثورة في البحرين المظلومة لأنها فقط شيعية!
(3) ما يتناساه البعض الذين يصرخون ضد التدخل الأمريكي والخليجي في سوريا أنهم هم أنفسهم الذين دعموا التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق، وكانوا أكبر المستفيدين من هذا التدخل، بل وصوروا المقاومة الشعبية ضده بأنها إرهاب! وبعض هؤلاء كان معارضا للجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفيتي بحجة أنه صنيعة أمريكا.. فلما احتلت واشنطنأفغانستان والعراق احتلالا كاملا، وأعادت صياغة نظامي البلدين كما تريد كان أولئك المشمئزون من الدعم الأمريكي للجهاد الأفغاني هم أول المهرولين للاعتراف بالنظامين الجديدين في كابول وبغداد، والتعاون معه: سياسيا واقتصاديا وحتى في مجال محاربة الإرهاب بمباركة واشنطن أو الشيطان الأكبر سابقا!
فما الذي جعل التدخل الأمريكي في سوريا وغيرها أمرا مرفوضا وعمالة بينما كان في العراق وأفغانستان شيئا مقبولا ومرحبا به، وفي أسوأ الأحوال مارس القوم معارضة لفظية بينما كانت جحافلهم وفقهاؤهم يدخلون فوق الدبابات الأمريكية؟ ثم ما هو الفرق بين نظام البعث في العراق والنظام البعثي في سوريا؟ كلاهما بعثيان، أقاما دولتين قوميتين علمانيتين، وكلاهما تورط في ارتكاب مجازر قمع مرعبة ضد مواطنين معارضين! وكلاهما في يوم ما أقام تفاهمات مع أمريكا والغرب للسكوت على سياسته؛ العراق في حربه ضد إيران، وسوريا في تدخلها في لبنان عام 1976 وبقائها فيه حتى غيّر الغرب سياسته تجاه النظامين وفقا لمصالحه؟
(4) من السهل فهم التناقض الموجود في المواقف الغربية؛ بل لا جديد في ذلك أصلا.. لكن لماذا يكرر البعض الذي ينتقد هذا الموقف الفعل نفسه؟ أليسوا هم الذين رحبوا بسقوط القذافي رغم أنه حدث بدعم عسكري أطلسي لولاه لربما لم يسقط نظام القذافي ولفشلت الثورة الشعبية؟
المبرر الإعلامي المعلن أن (سوريا) تمثل بلدا ممانعا للهيمنة الأمريكية وداعما للمقاومة في لبنان وفلسطين! لكن ألم يكن (عراق صدام حسين) أيضا بلدا ممانعا للهيمنة الأمريكية، ودخل في حربين مع الولاياتالمتحدة انتهت بسقوط النظام.. بل هو النظام العربي الوحيد الذي أرسل صواريخه لقصف المدن الإسرائيلية؟ وألم يكن (عراق صدام حسين) داعما للمقاومة الفلسطينية ورافضا للتسوية مع إسرائيل؟ فلماذا – إذن- لم ينفع عراق صدام كل ذلك، ويجعله يحظى بعطف الآيات والأحزاب الموالية؟ ألم يوفر وجود القوات الأمريكية والبريطانية في العراق فرصة لجهاد الشيطان الأكبر وتحطيم الهيمنة الأمريكية على الأرض؟ فلماذا أضاعوا الفرصة وتفرغوا لدعم بناء نظام مرتبط بأمريكا حتى النخاع؟
(5) في تقديرنا أن المشكلة تنشأ من قياس ما يحدث في البحرين على ما حدث ويحدث في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، وهو قياس غير سليم؛ لأن ما يحدث في البحرين حتى الآن لم يصل إلى درجة الثورة المطالبة بإسقاط النظام من أساسه وتغييره تغييرا كاملا، وقصارى ما يحدث هو المطالبة بتوسيع الممارسة الديمقراطية وجعلها أكثر فاعلية! وعلى هذا فما يحدث في البحرين يماثل تماما ما يحدث في الأردن، وما حدث في المغرب وموريتانيا والجزائر وسلطنة عمان، وحدث فترة قصيرة في العراق ولبنان.. ففي كل هذه البلدان حدثت حركات احتجاج شعبية رفعت مطالب سياسية وحقوقية ومعيشية ولكن تحت سقف النظام القائم! بل يمكن القول إن ما يحدث في البحرين أكثر تماثلا مع ما حدث في إيران نفسها عقب الانتخابات الرئاسية 2009، وثورة المعارضة ضد ما وصفته بعمليات تزوير كبيرة لإعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد، وهي حركة احتجاجات يمكن القول إنها من أخطر ما واجهه النظام الإيراني لأنه انطلق من داخل العباءة الدينية وبقيادة شخصيات دينية وسياسية كانت يوما ما تشارك في قيادة الجمهورية الإسلامية في أرفع المناصب!
سنلاحظ أنه رغم أن المعارضة الأردنية سنية – وفق التعبيرات الشائعة- إلا أن المؤيدين للقوى الشعبية في سوريا لم يتعاملوا معها باعتبارها ثورة تغيير جذرية، وكذلك الحال في الدول الأخرى المشابهة لوضع الأردن بما فيها إيران نفسها؛ مما يدل على أن الموقف تجاه أحداث البحرين لا علاقة له بكونها حركة شيعية!
(6) إذاً حالة البحرين تختلف – أولا- عما حدث في بلدان الربيع العربي من حيث جذرية المطالب المرفوعة، والإصرار على قطع العلاقة مع الماضي متمثلا برأس النظام! أما ثانيا؛ فالبعد الطائفي المذهبي الذي يتصف به المعارضون في البحرين الآن ليس أمرا بسيطا؛ ففي بلدان الربيع العربي كانت المعارضة تشمل كل الأطياف السياسية والفكرية مما منح الثورات طابعا وطنيا.. أما في البحرين فإن اللون الطائفي الواحد للمعارضة التي تقف وراء الاحتجاجات سلبها جزءا من جاذبية الثورات الأخرى؛ فمن الواضح أن الليبراليين واليساريين والإسلاميين السنة بفصائلهم المتعددة نأوا بأنفسهم عن احتجاجات مواطنيهم الشيعة.. وأياً يكن السبب فإن ذلك يظل عيبا كبيرا زاد من سوئه أن التأييد الغالب للمحتجين في البحرين جاء من أوساط طائفية مشابهة سواء دول كإيران أو أحزاب كالجماعات الشيعية في لبنان والعراق واليمن والخليج، وكلها كشفت مواقفها ضد الثورة الشعبية في سوريا – ومن قبلها تجاه ما حدث في أفغانستان والعراق- أن مواقفهم الداعمة للاحتجاجات في البحرين لا تختلف في طائفيتها وانتهازيتها عن المواقف العربية والغربية المتفاوتة سلبا وإيجابا تجاه ثورات الربيع الأخرى! لا يعني هذا أن تأييد الاحتجاجات في البحرين خطأ أو غير مطلوب لكن لا يصح أن نجعله سببا للخلاف بين القوى السياسية في بلدان أخرى إن لم يتم تخصيص جمعة له أو لم تدرج ضمن ثورات الربيع العربي!