لطالما تأرجحت علاقات الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح بالمملكة طبقا للظروف والأحداث، ففي أوقات معينة وصلت العلاقات إلى درجة عالية من الحميمية والتقارب خاصة بعد تولي صالح للسلطة وعقب توقيع اتفاقية الحدود بين البلدين، ووصلت العلاقات في أوقات أخرى إلى قدر كبير من العداء والتنافر لا سيما بعد اجتياح صدام حسين للكويت وعقب إرغامه على ترك السلطة في 2012. لقد حدثت قطيعة تامة بين صالح والسعودية بعد أن أدرك أن مبادراتها المتكررة بخصوص الاحتجاجات التي قادت إلى تخليه عن الحكم لم تلب طموحاته على الإطلاق. وتمنى صالح أن يكون بمقدوره الانتقام من السعودية بأي شكل من الأشكال، لكنه لم يجد، كما يبدو، أي وسيلة سوى التحالف مع خصومه السابقين، جماعة الحوثي التي خاض ضدها حروبا عديدة بدعم من المملكة.
لم يكن يدور في أذهان حكام المملكة أن صالح سوف يتمكن من ترميم الشرخ الكبير في علاقاته مع الحوثيين، لكن صالح محترف أشد الاحتراف في ممارسة تكتيك التحالفات حيث انغمس خلال مرحلة حكمه في صراعات وخلافات متكررة تلتها تحالفات وثيقة مع الحوثيين والقاعدة والناصريين وحزب الإصلاح وغيرهم.
ويبدو أن صالح وصل إلى قناعة ،في فترة من الفترات، أنه لم يعد من الممكن إعادة المياه إلى مجاريها بينه وبين والسعودية ولذلك بدأت وسائله الإعلامية المختلفة باستهداف نظام الحكم في السعودية والترويج للحركة الحوثية وأفكارها واستضافة القيادات الحوثية وتلميعها باستمرار.
وفي إطار التصعيد الذي انتهجه صالح ضد المملكة، أرسل صالح وفود إلى الحركة الحوثية في صعدة والسفارة الإيرانية في صنعاء، كما استقبل الكثير من ممثلي الحركة الحوثية في صنعاء والمقربين منها بشكل سري أحيانا وبشكل علني في مرات أخرى وليس أدل على ذلك استقباله للقيادي في اتحاد القوى الشعبية محمد عبد الملك المتوكل وآخرين وإيفاد خاله على مقصع للالتقاء بعبد الملك الحوثي، زعيم الحركة الحوثية.
ومما يؤكد على وصول العلاقة بين صالح وحركة الحوثي إلى درجة عالية من التعاون والتنسيق سياسة وسائل الإعلام التابعة لصالح حيث دأبت على الدفاع عن الحركة وتجنب الحديث عن كل ما يسيء للحركة، كما قامت باستقطاب كثير من الإعلاميين والكتاب المحسوبين على الحركة الحوثية ولا يزالون إلى الآن يديرون ويساهمون بشكل كبير في إدارة وتوجيه قناة اليمن اليوم وصحيفتي اليمن اليوم و الأولى.
وعلاوة على ذلك، عمل صالح جاهدا في دعم الكثير من المحسوبين على الحركة الحوثية للحصول على مناصب كبيرة في المؤسسات المدنية والعسكرية التي كانت ما تزال تحت سيطرة عائلته وحلفائه، إضافة إلى ترشيحه لنسبة كبيرة من المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني ممن ينتمون إلى الحركة الحوثية.
لقد انعكست حميمية العلاقات بين صالح والحركة الحوثية على أعضاء المؤتمر الشعبي العام حيث أصبح قادة الحزب في أحياء المدن والمديريات يعلقون شعارات الحوثي في أفنية منازلهم ويشيدون بشكل علني بكل ما تقوم به الجماعة ويدافعون عنها دفاعا مستميتا، ويحضرون اجتماعاتها ويدفعون بالناس لحضور مهرجاناتها وطقوسها.
وعلاوة على ذلك، سربت العديد من وسائل الإعلام اليمنية أن أحمد علي عبد الله صالح، نجل صالح الأكبر استقبل الكثير من مقاتلي الحوثي في معسكرات ما كان يعرف سابقا بالحرس الجمهوري وأوفد إليهم قيادات عسكرية تنتمي إلى الحركة لتدريبهم، كما نقلت وسائل إعلامية يمنية تأكيدات حول ذلك من قبل بعض من حضروا معسكرات التدريب.
ويبدو أن المملكة أدركت مؤخرا أنها كانت مخطئة بانتهاجها لسياسة مقاطعة صالح والاعتماد على الرئيس عبدربه وحكومة الوفاق في التعامل مع الحركة الحوثية لاسيما بعد أن تمكنت جماعة الحوثي من حشد جماهير كبيرة في صنعاء خلال الاحتفال بالمولد النبي، إضافة إلى تمدد الحركة في الكثير من المناطق من ضمنها العاصمة صنعاء.
ونتيجة ليأس المملكة من قدرة الرئيس هادي وحكومة الوفاق على اتخاذ إجراءات تحد من توسع الحركة الحوثية، بدأت من جديد تمد خيوط التواصل مع صالح من خلال الرد على برقياته المرسلة إلى قيادات المملكة في المناسبات، حيث كان أول رد سعودي على برقية أرسلها صالح للتعزية بوفاة أحد الأمراء بمثابة بارقة آمل جديدة لترميم الشرخ الكبير الذي حدث في العلاقة حيث احتفت وسائل إعلام صالح بذلك الرد واعتبرته نصرا استثنائيا لصالح الذي كان يشعر بعزلة شديدة.
وقد توالت البرقيات بين صالح وقيادة المملكة في المناسبات مما حدا بصالح إلى انتقاد الحركة الحوثية بشكل علني في أحد مهرجاناته ولأول مرة منذ إرغامه على ترك السلطة في حركة أراد من ورائها من دون شك توجيه رسائل لحكام المملكة بأن هناك إمكانية للتحالف من جديد والاستفادة من بعضهما البعض. لقد مثل خطاب صالح إشارة واضحة على حدوث تقارب بينه وبين المملكة.
وعلى الرغم من انتقاده للحوثيين علنا، لا يستطيع صالح أن يتخلى هذه المرة عن الحركة وسوف تبقى العلاقات راسخة على الأقل من تحت الطاولة تحسبا لأي طارئ ولأن كل طرف بحاجة ماسة إلى الآخر في الوقت الحالي نظرا لتفاقم العداء بين صالح والحوثي من جهة وبين حزب الإصلاح الإسلامي وقائد المنطقة الشمالية الغربية الذي قاد عدة حروب ضد الحركة في صعده خلال مرحلة حكم صالح، اللواء على محسن الأحمر، من جهة أخرى.
ونظرا لإدراك كل طرف بأهمية علاقته مع الآخر، فلما يعر الحوثيون انتقادات صالح أي اهتمام ولم يردون عليه كما كان معتادا من قبل. ومن دون شك أو ريب، أصبحت الحركة تدرك أن صالح لا يمكن أن ينفك عنها في هذا الوقت وأن انتقاداته ليست مجرد تكتيك لتخفيف الضغوط التي تمارس عليه من قبل السعودية ومن التيارات السلفية التي وقفت إلى جانبه في الاحتجاجات التي أطاحت به.
وبخلاف ما أعتيد عليه، فقد غادر صالح اليمن مؤخرا في رحلة علاجية إلى المملكة العربية السعودية، بشكل مفاجئ ومازالت التحليلات والتكهنات تتوالى حول استقبال المملكة لصالح في هذه الفترة بالذات، خاصة مع حدوث مناوشات في الحدود بين قبائل يمنية مدعومة من الحوثي وبين الجيش السعودي.
إن استقبال السعودية لصالح في هذا الوقت يدل بشكل قاطع أن هناك صفقة أبرمت بين السعودية وصالح تقضي بالتعاون لوقف تمدد الحركة الحوثية المدعومة من إيران في بعض مناطق اليمن واستخدام نفوذه وعلاقاته مع بعض زعماء القبائل لمواجهة الحوثي في الداخل لاسيما في حال اندلعت أي مواجهات بين الحوثي والمملكة كما حدث في 2009 عندما توغلت الحركة في الأراضي السعودية واحتلت الكثير من المواقع.
ومن المؤشرات على استئناف التحالف بين صالح والسعودية أن بعض من حلفائه وقادة القبائل مثل صغير بن عزيز حضروا مؤتمرا أقيم في صنعاء في منتصف مارس وهدف إلى دعم القبائل المناوئة للحركة الحوثية في محافظتي صعده وعمران. ورغم الحروب الطاحنة التي جرت في 2011 بين أسرة آل الأحمر وبين بن عزيز الذي استخدمه صالح في مواجهة الكثير من خصومه في أوقات سابقة ومن ضمنهم الحوثي وآل الأحمر، إلا أن الأخير حضر هذا المؤتمر مع وجود صادق الأحمر وكثير من حلفائه القبليين الذين يعدون من ألد خصوم بن عزيز. ومن المؤكد أن ذلك لم يحدث إلا بضوء أخضر من صالح وبدعم من المملكة.
إن هناك معلومات تؤكد على أن السعودية كانت قد أوقفت دعمها المالي الذي يقدم منذ عقود لبعض زعما القبائل الذين وقفوا إلى جانب صالح وأتاحوا الفرصة لحركة الحوثي بالتوسع ولم يحركوا ساكنا أمامها، الأمر الذي دفع الشيخ ناجي بن عبد العزيز الشايف، أحد زعماء قبيلة بكيل البارزين، إلى إصدار بيان قبل مغادرة صالح إلى السعودية بساعات حمل فيه نجله محمد وحفيده خالد مسؤولية بعض التصرفات المسيئة التي لم يحدد ماهيتها.
ومن المؤكد أنه يعني بالتصرفات وقوفهما إلى جانب صالح وفتح الطريق، بشكل أو بآخر، أمام حركة الحوثي للتمدد خاصة في محافظة الجوف الواقعة على الحدود مع السعودية والتي تنتمي إليها أسرة الشايف.
ويبدو أن بيان الشايف جاء في هذا التوقيت بالذات بإيعاز من صالح وأن من بنود الصفقة التي تم التوصل إليها مع السعودية إعادة دفع المبالغ المالية لحلفاء صالح القبليين مقابل مجابهة توسع الحركة في بعض المناطق اليمنية والوقوف إلى جانب السعودية في حال اندلعت أي حرب مفاجئة مع جماعة الحوثي.
إن من السابق لأوانه التكهن بماهية ما سيجنيه صالح من هذه الصفقة، إلا أنه يبدو أن المملكة سوف تقدم ضمانات لصالح بممارسة ضغوط على الرئيس هادي والحكومة اليمنية بعدم اتخاذ أي إجراءات عقابية ضده وضد عائلته مثل إلغاء الحصانة وعدم مطالبة مجلس الأمن بإصدار عقوبات ضده إضافة إلى حصول أفراد من عائلته والموالين له على مناصب مرموقة في الحكومة والجيش.
لا شك أن الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح يدرك تماما أهمية توطيد العلاقة بينه وبين المملكة وأن أحلام العودة إلى السلطة التي مازالت تراوده إلى الآن -عن طريق ترشيح أحد أقاربه للرئاسة- من الصعب أن تتحقق إذا كان هناك فيتو سعودي ضد ذلك، لكنه يجد أيضا صعوبة كبيرة في فك الارتباط عن حركة الحوثي التي قطع شوطا كبيرا في إقامة علاقات استراتيجية معها.
ويفضل صالح- على الأقل في الوقت الراهن- الجمع بين الأختين "جماعة الحوثي والسعودية"، إلا أن حرمة ذلك قد تجعله يضحي بحركة الحوثي في حال خيرته المملكة بينها وبين الحركة. وفي مثل هذه الظروف، قد يلجأ صالح إلى عقد زواج عرفي أو زواج متعة بينه وبين الحركة التي لن تتورع مضطرة على الموافقة عليه رغم غيرتها الشديدة من المملكة.