كنت أستهول المبالغة قبل سنوات؛ وأنا أقرأ بيانات نقابة المعلمين اليمنيين التي تطالب بأن يكون الحد الأدنى للأجور 80 ألف ريال للمعلم.. وهذه الأيام فقط أكتشف مقدار سذاجتي المالية التي جعلتني يومها أستهول الأمر، بل أعلنت رأيي هذا للنقيب السابق أحمد الرباحي مطالبا إياه بالواقعية! هذه الأيام ومع موجة التسريبات الوثائقية المتبادلة في عدد من مؤسسات الدولة؛ وبصرف النظر عن صحة الاتهامات بالفساد ومخالفة القانون من عدمها؛ يتكشف للموظفين اليمنيين الغلابى في أجهزة الدولة المظلومة كم أنهم مضطهدون ومحرومون، ويعاملون معاملة أبناء الجواري.. ويتكشف أكثر أن هناك مؤسسات ومصالح ووزارات موظفوها دماؤهم زرقاء، وسلالتهم شديدة النقاوة.. وجهات أخرى موظفوها من سلالة عبيد أفريقيا، دماؤهم سوداء، والمرتب الشهري الذي يتقاضونه من الدولة يصل إليهم ولسان حال مسؤوليها يقول: نار وسم في أجسادكم!
وأنا أقرأ المقالات والوثائق المسربة التي تبادل البعض فيها تهم الفساد وتجاوز القانون، لفت نظري مصطلحات مالية لم أسمع بها وأنا الموظف الحكومي في وزارة التربية والتعليم منذ 29 عاما: قالوا إيش: هناك مؤسسات تصرف لموظفيها شهريا: مكافآت، وعلاوات، وحوافز عامة للكل، وحوافز خاصة للبعض، وبدل علاج، وإضافي.. وكل ذلك مضافا للمرتب بالضرورة! وطبعا كل ذلك غير موجود في استراتيجية الأجور والمرتبات التي بدأ تطبيقها عام 2005، وإلا كان الأصل أن تمنح لكل موظفي الدولة بدون استثناء! وهذه المسميات المالية ليست بسيطة وقليلة مثل: العلاوة التي تعطى للمعلمين في الميدان فقط (عشرة آلاف ريال شهريا).. فمثلا يبدأ الحافز الشهري من 24 ألف ريال عند المتذمرين من هؤلاء المحظوظين، ويتفاوت حتى يصل إلى المائة وأكثر في جهات أخرى! وتقريبا فهذه الأرقام هي مجمل المرتبات الإجمالية التي تحصل عليها فئة مثل المعلمين بدءا من أول السلم حتى آخره.. مع ملاحظة الفارق أن المعلم يبدأ يومه العملي في الوقت الذي يكون كثيرون من هؤلاء لم يغادروا فراش نومهم.. والنشيط منهم هو الذي يكون قد بدأ يومه السعيد لغسل وجهه!
••• المعلومات الأخرى في فضيحة زلط ويكيلكيس (هذ المرة أصر على ضرورة قراءة الهمزة بالفتح!) أن هناك جهات حكومية تمنح موظفيها؛ بالإضافة لكل تلك المسميات المالية؛ ثلاث إكراميات في السنة: إكرامية رمضان، وإكرامية العيد الكبير.. وآخر الإكراميات المكتشفة: إكرامية مايو، وهذه الأخيرة خاصة كما يبدو بمؤسسات: مكتب الرئاسة، ومجلس الوزراء، ومجلس النواب باعتبارها أكثر الجهات وحدوية، والعاملون فيها هم الوحدويون الأصليون وربما: شركاء الوحدة!
ومنذ عام 1990 وموظفو الدولة من فئة الرقاب والمغموسين في السراء والضراء يرفعون عقيرتهم بالمناشدة والاسترحام –دون جدوى- لقيادة البلاد أن تجعل لهم نصيبا من فريضة الإكرامية الرمضانية وألا تقتصر على الصنف المشهور يمنيا وهو: العاملين عليها.. وباستثناء رمضان الانتخابات الرئاسية (2006) حامية الوطيس التي أقنعت أمير المؤمنين يومها بأن للزكاة ثمانية أصناف؛ فصدر الأمر الانتخابي بصرف إكرامية رمضان كاملة (ربما من باب: الصدقة تقي مصارع السوء والفرز!) فلم تقتنع حكومة العاملين عليها بأن الزكاة والإكرامية مقصود بها من يعاني في مواجهة سياساتها الاقتصادية الفاشلة، وليس الفئات التي تستلم من المرتبات والعلاوات ثمانية أصناف!
ولعل القارىء يتذكر العبارة/ القفشة التي أشرت إليها قبل أسابيع (عند الحديث عن الأستاذ الأديب سعيد عولقي) الذي كتب مطلع الوحدة منددا بصرف إكرامية رمضان للجهات الحكومية (الهابي هاي) وحرمان الجهات الدون، ووصف هذا التفريق الزلطي بعبارة ساخرة وقاسية (لو كان لدى أولي الأمر حس إنساني) قال فيها: «إكرامية رمضان مثل أفلام الخلاعة.. للكبار فقط!».
وإلى يومنا هذا تأكد أن كل الحكومات منذ بداية الوحدة وحتى حكومة الوفاق الوطني حكومات حمشة ووقورة، وتتعامل مع الإكرامية على أنها أفلام خلاعة ولا أخلاقية لا يجوز أن يراها أو يمسها إلا المعصومون من موظفيها!
وها نحن اليوم نقرأ أن هناك أيضا إكرامية الأضحى.. وكمان إكرامية مايو.. والغريب أنه مع اشتداد المطالب بالانفصال إلا أن أحدا في الدولة لم يفكر أن يعمم «إكرامية مايو» هذه لجميع الموظفين حتى لا يظنوا أنهم من يهود الوحدة، ولو من باب دغدغة عواطف الناس تجاه الوحدة، وجعلهم يقولون: والله الوحدة حلوة وفيها فلوس!
في مجتمعات الفساد والبيروقراطية المتخلفة تكثر مسميات العلاوات والمكافآت والبدلات والإكراميات لتسهيل عملية انتقال الزلط من الخزينة إلى جيوب المحظوظين فقط.. وفي التراث البيروقراطي المصري يسخرون من أمثال هذه البدلات الفارغة من المضمون بأن هناك بدلا ماليا اسمه: «بدل ما واحد ثاني يأخذهم».. لصرف الفلوس إذا لم يكن هناك مبرر أو إذا استكملت كل المصارف المعروفة.. وصدقوني؛ سيأتي يوم سوف نكتشف فيه أن هناك إكراميات سرية مثل إكراميات: سبتمبر وأكتوبر، وإكرامية: حمى ما في الصيف، والعودة إلى المدارس.. ووحام الزوجات.. ووجود مشكلة في بيت الجيران؛ على غرار ما قيل إنه تم صرف مليون ريال لرئيس مجلس النواب مواساة بوفاة قريب له.. وهذه المواساة تذكرني بنكتة الزوجة المصرية التي تقول لزوجها إنها صرفت بقية مرتبه لشراء فستان لها بمناسبة عيد.. ميلاده!
سائلين الله تعالى أن يطيل أعمار أقارب رئيس مجلس النواب من الدرجة الأولى حتى العاشرة، وجيرانه وجلسائه ومن لهم حق عليه؛ حتى لا يأتي يوم تعجز موازنة الدولة عن صرف بدل مواساة له، فتضطر الدولة لطلب قرض عاجل من الخارج باسم: قرض مجابرة!
(2) في مواجهة حركة الموظفين والمعلمين خاصة للمطالبة بتحسين أوضاعهم؛ ابتكرت حكومة النظام السابق مشروع الاستراتيجية الوطنية للأجور والمرتبات لامتصاص الغضب الشعبي من تدهور مستوى المعيشة وعجز ما يتسلمونه من مرتبات عن مواجهة ارتفاع الأسعار، وفهم يومها أن الاستراتيحية ستكون عادلة للجميع، وعلى طريقة الحواة المعروفة تحايلت الحكومة على القانون، ومنحت الموظفين في الجهات الهاي هاي الامتيازات المالية السابقة تحت العناوين التي أشرنا إليها بالأمس.. ومع أنه كانت تحدث تسريبات عما يتقاضاه هؤلاء المحظوظون من أموال تحت مسميات مبتكرة؛ إلا أن الأمر لم يكن يخطر ببال المساكين أن يصل إلى هذه الدرجة من استغفال عامة الموظفين حتى يصل الأمر إلى هوس غير عذري بالوحدة اليمنية، وبذكرى إبراهيم والذبيح إسماعيل عليهما السلام! في الوقت الذي كانت فيه الجهات المختصة مثل الإدارة المدنية والمالية تشدد (يا عيني على النزاهة والحرص على المال العام!) عند مطالبتها بصرف مكافآت وعلاوات صغار الموظفين بحجة أنها غير قانونية، ولا بد من ربطها بإجراء إصلاحات مالية وإدارية!
زميل صحفي فسر لي ما يحدث من تمييز مالي بين الجهات الحكومية؛ بأن هذه الصرفيات المهولة معروفة في المؤسسات الإيرادية التي تنفق يمينها ما لا تدري شمالها.. وهو كان يقصد جهات مثل الضرائب والجمارك والكهرباء وأمثالها من المؤسسات الإيرادية.. وبصرف النظر عن عدم سلامة هذا التفسير؛ لأن الإيرادات حق للشعب كله وليس للعاملين عليها فقط.. لكن هل ينطبق هذا التوصيف على جهات مثل مجلس النواب، ومكتب الرئاسة، ورئاسة الوزراء مثلا؟ المؤكد أنها جهات غير إيرادية، بل إن جهات التربية والتعليم والصحة قد تكون أكثر إيرادية منها، وأكثر نفعا منها للبلاد والعباد، ومع ذلك فلا أحد في السلطة يرى أن للعاملين في الصحة والتربية حق الحصول على إكرامية يهودة وليس رمضان أو عيد الأضحى!
••• أعلم أن هذه الأوضاع المختلة موروثة من النظام السابق، وهي ليست غريبة عن فلسفته في إدارة الدولة؛ لكن استمرارها في هذه المرحلة هو مؤشر محزن على أن النخبة الحاكمة بحاجة إلى أن تتميز ولو بنسبة 50% عن ممارسات النظام السابق الذي أورث أوضاعا مأساوية في مجالات عديدة، وتكفي أوضاع البلاد المتدهورة في التعليم والصحة والكهرباء، والسجون، واختطاف مقومات البلاد المالية والعسكرية إلى حيث لا أحد يدري.. لكن أن يظل المجتمع اليمني مقسوما بين أغلبية فقيرة تعاني الأمرين في معيشتها وبين أقلية متخمة مدللة بالمال العام فهذا أمر لا يجوز أن يستمر، وفي الحد الأدنى فالمطلوب أن تعمل الدولة على تقريب هذه الفجوة بين موظفيها ولا نقول تحقيق المساواة، وفي كل الأحوال فهذا الأمر ليس في خطورة إعادة هيكلة الجيش والأمن وانتزاعهما من قبضة عائلة صالح، ويحتاج فقط من قيادة الدولة والحكومة إلى خطوة تاريخية في قفل حنفيات الصرف العام أو تخفيفها الإهدار الملي تحت مسميات ابتكرها شياطين الفساد لمنفعة أنفسهم!
الوالد رئيس الجمهورية.. الوالد رئيس الوزراء،، والأخوة الوزراء خاصة ممثلي الثورة.. إغلاق مسارب إهدار المال العام ليس مستحيلا ولا حتى صعبا.. وهو خطوة ضرورية فالوضع الاقتصادي السيء للبلاد يعني شيئا واحدا مؤكدا: أن هناك فقرا وجوعا ومآسي إنسانية لا يجوز أن يرافقها كل هذا الإهدار بالمال العام! الأمر فقط يحتاج إلى شجاعة، وتضحية، وتذكر أن الذين ضحوا بالدماء في الثورة الشعبية فعلوا ذلك من أجل العدل، والمساواة، والحياة الكريمة التي لا يمكن أن تتأسس إن استمرت المفاسد المالية للنظام السابق معتمدة ومقرة في حياتنا!
أما الأخوة قيادات النقابات المعالية والمهنية وخاصة في الجهات الحكومية المظلومة.. فلا مجال أمامكم إلا البدء بنضال سلمي حقيقي لإنصاف منتسبي نقاباتكم، ولا تخشوا شيئا.. فإما وعاش اليمنيون كلهم بكرامة الحد الأدنى من المستوى المعيشي.. وإما فعلى المسؤولين أن يتحملوا مسؤولية جنايتهم وتقصيرهم!