أصبح تعيين أساتذة الجامعات في المناصب الحكومية القيادية موضة هذه الأيام لكونهم يحملون شهادة الدكتوراه، مع العلم أن العبرة ليست بالمؤهل وإنما بالقدرة والخبرة على استخدام هذا المؤهل العالي إن وجد بالصورة الحقيقية.. ويلاحظ أنه ما إن يتم تعيين أستاذ الجامعة في الجهاز الوظيفي للدولة حتى نشاهده وقد شغل نفسه بمهام أخرى خارج عمله الرسمي مما يجعل وقته مشتتاً على أكثر من جهة أو مسؤولية حتى أصبح لا يبقي من وقته لعمله الجديد سوى الربع تقريباً، لأنه لا يزال يمارس مهامه كأستاذ في الجامعة وأستاذ في الجامعات الخاصة ومستشار لشركة خاصة أو صاحب مكتب استشاري. ولو دققنا وتمعنا جيداً عن ذلك الأستاذ (الدكتور) لوجدنا أنه يفتقر للخبرة العملية والمران الطويل الذي يتراكم بحكم الممارسة، كما نلاحظ بأنه في موقعه الجديد يصبح شأنه شأن الطالب الذي يتلقى التعليمات والتوجيهات والإرشادات من أستاذه في الجامعة وبالعكس، حيث نرى الطالب وقد أصبح أستاذاً، والأستاذ أصبح طالباً، نريد أستاذ الجامعة أن يتفرغ لعمله فقط لأن "من أكل بيدين اختنق".. لذا إذا كان توجه الدولة لابد أن يتم تعيين حملة الدكتوراة في المناصب الحكومية فالسؤال هنا: لماذا لا يتم اختيار الكفاءات ذات التخصص العالي من جهة العمل نفسها؟ لأن هذه الكفاءات أصبحت متوافرة وليست محصورة في أستاذ الجامعة، فهي تمتلك الخبرة العملية عكس أساتذة الجامعة الذين يفتقرون إليها، ومما نلاحظه أن أستاذ الجامعة يصر على استمرارية كافة حقوقه المالية في الجامعة بالإضافة إلى مطالبته بمزايا المنصب الحكومي الجديد.
لا ننكر أن أستاذ الجامعة بحكم موقعه في الجامعة لديه الخلفية النظرية الواسعة في مجال تخصصه العلمي لكنه بحاجة إلى أن تصقله التجربة والخبرة والمران الطويل في موقع عمله الحكومي الجديد ليكتسب تلك المهارات اللازمة المرتبطة بطبيعة عمله الجديد، فالشيء المؤسف له أن هناك خبرات ممتازة "مركونة" في خانة النسيان يمكن الاستفادة منها، لكنها بكل أسف أهملت وحلّت محلها "المخضرية" نتيجة لتوجه الدولة بتعيين أساتذة الجامعات حديثي التخرج في المناصب القيادية الحكومية في الوزارات والمؤسسات، وهم يفتقرون إلى الخبرة والتجربة وفي حاجة إلى سنوات عديدة من أجل أن يكتسبوا الخبرة والمعرفة عن طبيعة العمل وواجباته ومهامه سبحان مغير الأحول!
كانت شهادة الدكتوراه في السابق لا تنال إلاّ بعد صعوبة وعقدة بالغة قل من استطاع اجتيازها والحصول عليها بعد دراسة مستفيضة وتحصيل علمي كبير، وبعد إعداد بحوث عديدة تجمع من عدة مراجع علمية أجنبية وعربية تمر بمدد كافية من التدريب والتجريب العلمي، أما اليوم فقد أصبحت تمنح لمن يستحقها ولمن لم يستحقها فكراً وعقلاً ومضموناً (ومن كذّب جرّب)، لذا نقول: إن المعرفة النظرية بطبيعة شهادة الدكتوراة لا تعتبر تأهيلاً كافياً إلاّ بعد أن تصقل هذه الشهادة العلمية بالمعرفة الكافية والخبرة الواسعة، أما وحصولهم على تلك الشهادة الجامعية (الدكتورة) خلال أيام قلائل ومراسلات واتصالات فهذا الذي لا يدخل في العقل مجرد يثير الدهشة، ومن أعجب العجاب أن الكثير منهم ممن يدّعون بأنهم قد نالوا شهادة الدكتوراة لم يبرزوا نسخاً من أطروحاتهم وبحثهم للجهات المختصة في الحكومة وموافاة الجهات المعنية عن موضوع أطروحاتهم والوقت الذي استغرق عند مناقشتها، حتى يتسنى للمطلعين والمهتمين معرفة اختصاص تلك الأطروحات ليتم توثيقها لدى الجهات ذات العلاقة قبل اعتمادها لحيث وأن ذلك هام وضروري، وحسبما هو متبع في بقية بلدان العالم، وهو إجراء هام ينبغي أن تتنبه له الجهات المختصة المسؤولة والقائمة على أمور البحث العلمي حتى نتمكن من وضع حد لأمر هذه الجامعات التي أصبحت تمطرنا بشهادات الدكتوراة بامتياز عن أطروحات في مجالات وتسميات غريبة، تجعلنا في حالة ذهول واستغراب تثير الشك في جدية الجانب العلمي بشأنها.
يجب أن يتم توثيق هذه الأطروحات في مكتباتنا الوطنية وفي أرشيف الجامعات لتكون مرجعاً يمكن الرجوع إليها عند الحاجة من قبل الدارسين، لذا فإننا نطالب الجهات ذات الاختصاص أن تتوخى الدقة عن هذه الشهادات التي أصبحت تمنح لمن هب ودب، مطلوب أن يعاد النظر بشأنها حتى يكون من يحملها فعلاً من ذوي الكفاءات.