لأن حليمة المصرية عادت لعادتها القديمة أيام حسني مبارك؛ فقد انصبت عنجهية العسكر على الفلسطينيين في حصار قطاع غزة بصورة إجرامية؛ وخاصة مع شمول الإجرام التدمير الممنهج للأنفاق التي كانت تعوّض إغلاق المعبر المصري الفلسطيني، وها هم فلسطينيوغزة يعانون حصاراً إجرامياً – وفي حالة الرأفة يسمح بفتح المعبر لعدة ساعات فقط- من قبل الشقيق العربي بحجة المحافظ على الأمن، ومنع تسلل الإرهابيين إلى سيناء! (سنسجل هنا بداية ملاحظتين ملفتتين للنظر: الأولى؛ أن رئاسة السلطة في رام الله ورموزها لا تبدي انزعاجاً وتنديداً؛ كما يحدث مثلاً عند وقوع عملية فدائية ضد الصهاينة؛ ولو من باب التمثيل، من الحصار القاتل المفروض على غزة، وكأن المحاصرين هم من الجماعات اليهودية المتشددة العاملة على هدم الأقصى! وكذلك اشتهر أن رأس السلطة عباس كان أحد أسعد الناس بالانقلاب العسكري (الذي كان من أوائل قراراته التضييق على الفلسطينيين) على د. مرسي؛ رغم تأييده المطلق للحقوق الفلسطينية وتعاطفه مع الفلسطينيين كما لم يحدث من زعيم عربي، وكما ظهر أثناء العدوان الصهيوني الأخير).
الملاحظة الأخرى؛ أن هذا العداء المصري الرسمي المجنون لحماس لا يتفق مع بعض حقائق التاريخ القريب؛ فمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فتح والمنظمات اليسارية هم الذين عادوا الحكومات المصرية منذ زيارة السادات للقدس بل ومن قبلها بكثير، وتحالفوا مع جبهة الصمود والتصدي ضدها، وهي المواقف التي استغلها التيار الانعزالي في مصر للتحريض ضد القضية الفلسطينية وشيطنة الفلسطينيين بأسوأ الطرق الممكنة.. وعلى العكس من ذلك فقد حرصت حماس منذ نشأتها على تجنب الصدام مع الأنظمة العربية المختلفة معها وتحمّل مؤامراتها بصبر، ولو كانت مثل نظام مبارك الذي شارك في حصار غزة حتى الموت، وترك الصهاينة يقصفونها 18 يوماً دون توقف، ولم يجد أن هناك ما يفرض عليه الاحتجاج الحقيقي ورفض العدوان كما فعل د. مرسي.. ويمكن القول إنه باستثناء البعد الإسلامي لدى حماس، ورفضها لمسار السلام الصهيوني الذي يثير جنون نظام مبارك ومخلفاته فلا يوجد ما يأخذونه عليها مما يثير جنونهم ضدها، وفي المقابل غفر نظام مبارك كل إساءات منظمة التحرير والفصائل التي عادته تاريخياً طالما أنها ضبطت موجتها مع.. العداء لحماس!).
••• ليس الغرض هنا تقييم موقف جماعة رام الله من الحصار ومسؤوليتها عنه بالسكوت أو التحريض الخفي.. الأكثر أهمية الآن هو الإسهام بلفت النظر إلى المعاناة الإنسانية الصعبة التي يعيشها فلسطينيوغزة من جراء حصار سلطة الانقلاب العسكري المصري التي تجردت من مشاعر الأخوة العربية والإسلامية الإنسانية، ورضيت بحجج واهية أن تطبق – أو للدقة: تعيد!- حصار الموت المفروض على مليون ونصف مليون عربي مسلم الذين عاشوا سنة من الانفراج الذي يبدو أنه أحد أخطاء مرسي والإخوان!
ولكيلا يرفع البعض عقيرته تبريراً للحصار الهمجي بالضرورات الأمنية، وحوادث العنف في سيناء؛ نبادر للقول إن الحصار أصلاً سياسة مباركية قديمة بالتنسيق مع الصهاينة منذ سيطرة حماس على غزة، وكان يمكن لسلطة الانقلاب لو كانت تريد ضمان أمن مصر فقط أن تتخذ كل ما تريد من إجراءات لمنع مرور أي شيء يضر بالأمن المصري (المصري وليس الصهيوني!) عبر معبر رفح، وهو أمر أسهل بملايين المرات من عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف في حرب أكتوبر، ومن فض اعتصام ميداني رابعة والنهضة، ومن اعتقال آلاف المصريين الرافضين للانقلاب العسكري، وتتبع قيادات الثورة الشعبية المضادة للانقلاب في المنازل والحارات والوديان والصحارى! وبالتأكيد فالمرور عبر مسارات معبر رفح كما يبدو في الصور هو أصلاً نوع من العذاب المسلط على الفلسطينيين، ولا يستطيع أي إنسان خلاله أن يقوم بتهريب سكين ناهيكم عن الصواريخ والقنابل والأسلحة والألغام التي يخشى الانقلابيون تهريبها من غزة إلى سيناء؛ فمنتهى أمل الفلسطيني أن يعود إلى مقر عمله أو دراسته او الذهاب لتلقي العلاج الضروري، أو إدخال المواد الأساسية لحياته!
••• ليس هناك أي مبرر يسمح لأي سلطة مصرية- أياً كانت- أن تحاصر غزة هذا الحصار الهمجي اللا إنساني، والذي تزداد همجيته كونه صادراً عن بشر يحكمون بلداً عربياً إسلامياً طالما آمن العرب والمسلمون بقيادته، ورضوا بأن يكون المصريون قادة سياسيين وعسكريين وقادة فكر وثقافة وتربية لهم.. إلخ .. ولا تفسير مقنعاً لهذا الحصار المصري الهمجي؛ إلا الانخراط الحماسي في المخطط الصهيوني الغربي لمحاصرة غزة لحساب إسرائيل والسلطة الفلسطينية حتى إسقاط السلطة القائمة في غزة بتحريض الشعب المحاصر المنهك بأن حماس هي المتسببة بسياستها ورفضها للانخراط في عملية السلام (!) مع إسرائيل، وأن الحصار لن يرفع إلا بسقوط حماس!
التقارير الصحفية عن معاناة سكان قطاع غزة تكشف صوراً مؤلمة جداً من المعاناة للمرضى والطلاب، والنساء والأطفال والشيوخ، وهي معاناة لا تفرق بين المنتمين لحماس وقوى المقاومة وبين العامة الذين لا ينتمون للأحزاب.. كلهم تقرر صهيونياً وأمريكياً وأوربياً أن يوقع عليهم العذاب والتضييق، وحرمانهم من الدواء وأساسيات الحياة الأخرى.. وهؤلاء لو كانوا حيوانات لهاج العالم كله من أجلهم وفي مقدمتهم الدول العربية التي تهرول عادة لإنقاذ حدائق الحيوان في الغرب إن أوشكت على التعرض للإفلاس!
ما ذنب هؤلاء الأبرياء ليقرر المجرمون المحليون والدوليون أن يجعلوهم يدفعون الثمن من صحتهم وأعمالهم ودراستهم؟ هل يجوز أن يوصف القائمون على هذا الحصار بأنهم بشر؟ هل توجد أنواع من الحيوانات تحاصر أبناء فصيلتها بهذا الشكل الهمجي؟
أذكر هنا أنني استهولت يوم دخلت منظمة التحرير إلى غزة وفق اتفاق "غزة- أريحا أولاً" تعبيراً لزميلة صحفية وصفت فيه حال الفلسطينيين مع السلطة الجديدة بعبارة "جاك قليل الدين".. وامتعضت أيضاً من تعليق لمدرس فلسطيني كان يعمل في اليمن، وصف الوضع في ظل حكم السلطة الجديدة بأنه أسوأ وأكثر همجية من حكم اليهود.. وأقرّ الآن أنه مع بعض التحفظات على بعض الكلمات فإن المشار إليهما كانا أبعد نظراً مني، وأكثر تحرراً من مشاعر التفاؤل الخادعة بأن أصحاب البيادات العسكرية أو الثورية يمكن أن يستقيم معهم.. خير!
••• من سوء حظ الفلسطينيين في غزة أن من يسمون قادة رأي عرب يغضون الطرف عن مأساتهم، وقليلون منهم من يجد أن خلافه مع الإسلاميين لا يعني أن يسكت عن مأساة الحصار، أما الأغلبية فما زالت حريصة على دور الحكيم الذي يساوي بين الضحية والجلاد والمتآمر العربي والفلسطيني.. ولا يجد أن مأساة مليون ونصف مليون محاصر في غزة جديرة بأن تدفعه لوضع النقاط على الحروف، وإزاحة السترة التي تتخفى تحتها سلطة رام الله في مواقفها المشينة تجاه جزء من شعبها!
وقديماً قيل الساكت عن الحق شيطان أخرس.. ومن سوء الحظ أن الشيطان المتآمر في فلسطين وجد شياطين خُرساً في الوطن العربي يدعمونه بالسكوت ليس حباً فيه ولكن كرهاً في.. حماس!