النابهون الأحرار - وليس كل النابهين أحراراً - هم من يقع على عواتقهم تغيير مجتمعاتهم، وتبديل الواقع الرديء بواقع جديد وجميل؛ ذلك أن أفكارهم تقتات من أجسادهم، فيندفعون للعمل بكل مشاعرهم وأخلاقهم. ففي العتمة تراهم شموعاً تضيء بإخلاص عجيب وبقدر إضاءاتهم وتبديدهم للظلام تذوب أجسادهم وتنحسر، لكنهم سعداء بذلك ومصدر سعادتهم أنهم يقدّمون ما يقدّمون رضاءً لربهم وخدمة لمجتمعهم.
ثم إن غاياتهم التي يطمحون إليها كلما تذكروها وهم في أشد ساعات تعبهم ورزوحهم تحت اثقال الأمانة وفروض المسؤولية يذهب التعب عنهم وتتحول تلك المشاعر إلى وقود وإيمان وقوة معنوية هائلة تدفعهم إلى مواصلة المسير.
وفي طريقهم الطويل ومعاناتهم الأطول وأثناء ما يرملون في سيرهم يسقط من يسقط من ضنك المسير وعثاء السفر وكآبة المنظر، وليستمر من أرادت له الأقدار أن يستمر ليصل إلى هدفه.
ذلك أن هذه الثّلة المناوئة للعوج المطاردة لليل في قمم الجبال وبطون الوديان هي أقرب للعطب والإصابة واللأواء؛ لأنها على خطوط التماس ونقاط الالتحام المباشر.
نهضة اليابان بدأت بابتعاث الأشخاص الذين اتقنوا فهم "كاتالوجات" المحرّكات فنقولها إلى بلادهم ليبنوا نهضة علمية وصناعية كبرى؛ كان جزاء من يفشل من المبتعثين الاعدام ولا شيء غير ذلك.
إن بناء الأمم لا مجال فيه للمزاح، فالأمر جد وليس بالهزل، ومنظر ركوع امبراطور اليابان وجثوه على ركبتيه أمام القائد الأمريكي المنتصر وتوقيعه على هزيمة بلاده في الحرب العالمية الثانية منظر لن ينساه التاريخ كما لن ينساه الياباني.
إذاً مرت نهضتهم بإتقانهم تكنيك المحركات لا إتقان القصيدة، وإن كُنا نحب القصيد ونهيم بالشعر، إنما واقع الحال يقول إننا نهيم بالشعير أكثر من الشعر؛ نحتسكه بجرأة، حد المباهاة، أثره واضح في ضرب أبراج الكهرباء وأنابيب النفط، حتى غدونا أمة للشعير، لا للشعر، مع اعتذاري عن وجع الأحرف وسياط الكلمات.
النهضة المرتقبة والسؤال هو: هل بالإمكان إحداث نهضة في مجال الطاقة؟ يجيب وزير الكهرباء وقد أطلق تنهيدة حرى وأبدى أسفه عن تأخر هذا السؤال أكثر من خمسين عاماً ليطرح اليوم، وأردف أن الامكانية كبيرة في هذا المجال، إنما يجب أن يتوقف التخريب والتفجير لنخطو الخطوة التالية..
نريد أن نضيء كل بيت في اليمن، لن نهدأ ما دُمنا في موقعنا حتى توصل الكهرباء لكل قرية لكل مواطن، يؤسفنا أن مناطق محرومة من الكهرباء حتى الآن.
لقد استغرق وثلة من المخلصين في التفكير والبحث والدراسة عن أفضل السبل للنهوض بقطاع الكهرباء، استعرضوا مختلف التجارب لدول مماثلة لليمن وغير مماثلة، فدرسوا تجربة جنوب أفريقيا, السودان وكوريا وغيرها، فوجدوا أن السودان هي الأقرب لليمن، وظروفها كانت أسوأ من ظروفنا، وربّما متشابهة في بعض وجوهها.
رحلة النور: انتدب الوزير لهذه المهمّة فريقاً من المختصين ليسافروا إلى هذه البلدان لدراسة التجربة والعمل على نقلها إلى اليمن، حمّلهم الأمانة العلمية وأمانة اليمن بكاملها، فيما يخص مصالحها في جانب الطاقة. وقال: اليمن أمانة في أعناقكم. تمت الترتيبات مع الخارجية والسفارات المعنية، وودعهم منتظراً لما سيعودون به. وعندما عاد الوفد اتصلت حينها بالأستاذ إبراهيم الشريف مدير عام الشؤون التجارية، فقال أبلغ الوزير منّي السلام وبشره بالخير الكثير.
ما أجمل أن تسافر وتطير في السماء وكلمات المسؤول الأول في وزارتك ترن في أذنيك (اليمن أمانة في أعناقكم، احفظوها في حدقات عيونكم وحنايا ضلوعكم، اليمن تستحق كل خير، فكما اعطتكم اعطوها، وكما حفظتكم احفظوها).
مركب المشاكل المعيقة مجموعة معقّدة من المشاكل فاقمت وضع الكهرباء والطاقة، فالتركة هي تركة 50 عاماً ليست بالقليلة ولا الهيّنة حتى تحل في عام أو عامين، وإذا جئنا نفصل:
فالمديونية كبيرة ما يربوا على "80 ملياراً"، ولا بُد من إيقافها، وإلا ستزيد وتتفاقم، ولا بُد أيضا من تحصيل المتراكم منها وفق نظام رفيق لا يضر بالمواطن أو ترهق كاهله (جدولة الديون) واقتطاعه على دفعات يسيرة، وفي الوقت نفسه لا يضيع حق الدولة من المال العام، وفي هذا حفاظ على قطاع الكهرباء من الانهيار.
هناك إشكالية المخالفين، والتي تحتاج في كثير من الأوقات لحملات أمنية ترافق المفتشين والمتحصلين وميزانيات، وما ينجم عنها من ابتزاز وإزعاج وخسائر ومشاكل لا حصر لها. فالحاجة إلى إيقاف الكهرباء عن المنازل المخالفة (توصيل من خطين أو من خارج العداد ....) فقط دون أن يُطال الإطفاء الآخرين، وهم ملتزمون، وهو ما يفعله بعض مسؤولي المناطق كوسيلة للضغط على المُمتنع وجيرانه لإجباره على السداد، وهي طريقة خاطئة، نظام الدفع المسبق يوفّر كل هذا العناء والعنت.
هناك جيش من الموظّفين (أكثر من عشرين ألف موظف) قُراء العدادات ومفتشين, اداريين، وهناك طباعة الفواتير وتوزيعها يكلف الخزينة العامة أكثر من 4 مليارات شهرياً، وبالإمكان توفيرها واستغلالها في تأهيل هؤلاء وفتح شركات لصناعة كهربائية بمختلف قطاعاتها، كما في السودان، يوظّف فيها هؤلاء ويكونون مهندسين وفنين منتجين وفئات متخصصة.
ثم إن الوزارة والمؤسسة بحاجة لتوفير السيولة مقدّماً بتحصيل المبيعات شهرياً، كما تفعل كل شركات الهواتف الخلوية، بل إن هذا التعامل هو البديهي. فقبل أن تأخذ ما تريد من بقالة مثلاً ادفع ثمنه، هذه بديهات التعامل التجاري، فلماذا الكهرباء تظل مشاعاً "خذ ثم حاسب"، والكثير يماطلون، والديون تتراكم، والفاقد يتضاعف.
كما إن هناك إشكالية الشبكة الكهربائية فهي قديمة ومتهالكة وتحتاج لتجديد وستتجدد بكل تأكيد، وإنما يُفاقم تهالكها هو كثرة الفصل والإعادة على المخالفين، ونظام الدفع المسبق لا تحتاج فيه لقطع السلك عن المنزل، بل إن المنزل سينطفئ بمجرد انتهاء وحدات الكهرباء، كما يفصل الاتصال عن الهاتف، وإذا حدث أن ظل المنزل مضاءً فستستطيع معرفة ذلك من خلال المراقبة الالكترونية وعداد سحب الوحدات فتوجّه له من يقوم بتفتيش المنزل فقد يكون موصلاً خطاً آخر، فتعد مخالفة قانونية.
نخلص من كل هذه القضايا إلى أن النظام الذي يعمل الوزير وقيادة الوزارة والمؤسسة على إدخاله البلاد هو نظام الدفع المسبق الذي وُجد أن أربعة مشتركين يوفّرون كهرباء لشخص خامس في هذا النظام، وهي ميزة أخرى تسمح بتوسع نطاق الخدمة.
فوزير الكهرباء في كفاحه المرير من أجل النور عمل بكل جهده حتى تم إقرار 105 ملايين دولار لهذا المشروع الحيوي الهام كمشروع استثماري للعام 2014. وفعلاً أجريت المسوحات الميدانية من قبل خبراء سودانيين في منطقة السبعين، وسيُسافر الوزير للقاء وزير الطاقة السوداني لوضع اللمسات الأخيرة على تنفيذ اتفاقية المشروع، وقريباً سيتم تدشين العمل على ثلاث مراحل: 1.أمانة العاصمة وعدن. 2.عواصم المحافظات. 3.الريف. يحتاج المشروع لجهد إعلامي توعوي تثقيفي كبير، ذلك أن النظام جديد، والبعض قد لا يروق له المشروع فيعمد إلى إثارة الشبهات، والجمهور بحاجة لمعرفة فوائد هذا المشروع الهام، ولا يمكن إحداث نهضة، والكهرباء شبه مهدرة، وثروة مشاعة ضائعة. فالأمم المحترمة لا تعبث بمقدرات شعبها وثرواته بل تحفظها وتنميها للحاضر والمستقبل.