ليس المقصود بلفظة "الفلسفة" الموجودة في العنوان ذلك الفكر البشري المعروف؛ والذي وصف في عالمنا وتاريخنا الإسلامي بالفلسفة الإسلامية وأصحابه بفلاسفة الإسلام.. فالفلسفة بهذه المعنى ممنوعة وملعونة في دماج لدى التيار السلفي كما هو لدى التيار الشيعي؛ وحتى المعتزلة كانوا في مقدمة من عادى الفلسفة وحاربوها؛ بسبب ما فيها من أفكار تتعارض مع بعض الأصول الثابتة في العقيدة الإسلامية! الفلسفة المقصودة في العنوان هي ذلك الفعل البشري التي ترسخ في الوعي الشعبي بأنه موازٍ للف والدوان، واللت والعجن، وتجنب الوضوح وتحديد المواقف، والإغراق في المتاهات والتيه الفكري والتقعر اللفظي.. وهي مواصفات جعلت عامة الناس يصفونها بأنها "فلسفة"؛ بصرف النظر عن صحة ذلك أو عدم دقته! والذي حدث منذ بدأت حرب الحوثيين ضد منطقة دماج: حصاراً وقصفاً وتقتيلاً أن جهات حزبية ورموزاً صحفية وإعلامية عديدة لم تكتفِ بالصمت المعيب أو دور الشيطان الأخرس حول ما حدث ويحدث في دماج؛ بل راحت تشارك بطريقة غير مباشرة في تبرير القتل، وفي تمييع الأمر.. وهي مواقف لم يستفد منها إلا الحوثيون الذين يحاصرون دماج ويقصفونها، ويقتلون من فيها بالأسلحة الثقيلة.. فالثابت حتى الآن أن الحوثة هم الذين جاءوا إلى دماج وليست دماج التي ذهبت إليهم! والمؤكد أنهم هم الذين يقصفونها وليست هي التي تقصف مناطق الحوثة أو معاقلهم في صعدة، وأنهم هم الذين يحاصرون المنطقة وليست هي التي تحاصرهم! وحتى الآن فإن القتلى والجرحى الذين تم إخلاؤهم بواسطة المنظمات الدولية هم من سكان دماج.. ولم نسمع أن الحوثة يطالبون الصليب الأحمر (أو البني) أن يتدخل لإخراج جرحاهم وقتهم من دماج؛ ومما يؤكد ذلك أن قتلاهم وجرحاهم يتم سحبهم من مواقعهم بدون أي مشاكل لوجستية (لا سمح الله) تجعلهم محتاجين لتوجيه نداءات استغاثة من أي نوع لإنقاذهم من الحصار المفروض عليهم في دماج!
••• كانت تهمة وجود أجانب مسلحين يمارسون القتل في صعدة (!) هي إحدى التبريرات الخاطئة وأساليب الشيطنة في الإعلام المؤيد للحوثيين التي مهدت للحرب الحوثية ضد دماج وحصارها.. وانقلب الحوثيون وأنصارهم بالمذهب والولاء إلى وطنيين من الدرجة النادرة لا يقبلون أجنبياً في منطقتهم تجسيداً للشعار الذي يرفعه دائماً ابن شقيق المخلوع "لن ترى الدنيا على أرضي وصياً" والذي هو شطر بيت من النشيد الوطني لليمن! يحدث ذلك وكأن اليمن لم تعرف أجانب كثيرين عبر تاريخها البعيد والقريب جاءوا وعاشوا وحكموا وقتلوا بلا حساب، وما يزال أحفادهم يحاولون العودة إلى السلطة من جديد بنفس حيثيات أجدادهم، ورغم أنف ما جاء في النشيد الوطني (الظريف أن الذين يرفضون الوصاية هم الذين يريدون أن يحكموا بالوصية وهي إحدى مشتقات جذر كلمة: وصية).. وقد أشرنا مرة إلى أن هذه التهمة هي نفسها التي برر بها بيان القاعدة المنسوب إليها فور وقوع جريمة العرضي الدموية.. فكلتا الجهتين القاتلتين المجرمتين بررتا عمليات القتل التي قاموا بها ضد يمنيين بوجود.. أجانب في دماج وفي وزارة الدفاع! والمؤكد أن وجود الأجانب (للتنبيه فقط؛ هم مسلمون وليسوا نصارى أو يهوداً) في دماج ليس سراً ولا معلومة جديدة.. فهو أمر معروف منذ استقر الشيخ مقبل الوادعي في دماج وافتتح معهده مطلع الثمانينيات.. وجاءه طلاب من كل أنحاء اليمن، وفي الثمانينيات كانت هناك أعداد غير قليلة تنزح من جنوب الوطن – أي جنوبيون- إلى صعدة لتلقي العلم في معهد دماج.. وطوال سنوات عديدة كان النشاط في دماج يحظى برعاية الدولة ودعمها تماماً كما حظي الحوثة بنفس الرعاية والدعم! وكلهم كان يصف المخلوع بأنه ولي الأمر، ويؤيده ضد أعدائه المحليين والدوليين! وحتى أن بعضهم من جماعة التكفيريون والكفار (الذين سمعهم كاتب هذه السطور بأذنيه وهم يقولون عن صحابة ماتوا قبل 1400سنة بأنهم كفار أبناء كفار) يغرقون يومياً في ترديد وصف أجانب دماج ب "التكفيريون" تبريراً لقتلهم كلما طلب منهم تفسير سبب قدوم الحوثيين إلى دماج ومحاصرتها وقصفها وقتل من فيها! والمتشاطر منهم من يحاول أن يستدل على براءة الحوثيين بأن "التكفيريين" في دماج حفروا أنفاقاً دليلاً على أنهم حربيون حلال دماؤهم، وربما لأن حفر الأنفاق في الجبال خاص بمذهبين من نوعية معينة! هؤلاء المبررون للحرب على دماج وحصارها كراهية في الأجانب هم الذين يمكن وصفهم بأنهم أنصار الحوثيين بالمذهب، وهم كانوا صرحاء في تبرير الحرب، ولم يلفوا ولم يمغمغوا في الكلام، فشعارهم كان: لا وقت للفلسفة فتكلم أيها.. السيف! أما أنصار الحوثيين بالولاء الظاهر والباطن؛ فقد راح بعضهم يتعاطى "الفلسفة" بالمعنى الشعبي المذكور سابقاً.. فهو لا يندد بالحصار، وقصف المنازل، وقتل العزل الأبرياء (بمن فيهم الأجانب الذين سبق لأمثالهم من غير المسلمين أن وجدوا نفس هذه الفئة تدافع عنهم – عن حق- وتدين بأشد العبارات وأوضحها ما يتعرضون له من خطف أو قتل بوصفهم أخوتنا في الإنسانية ومستأمنين دخلوا البلاد بطريقة شرعية).. هذا البعض يهرب من الإدانة متفلسفاً للحديث عن قوس قزح! وثقب الأوزون! ويلف ويدور، ويدين ما يحدث ولكن على طريقة الأوروبيين والأمريكيين عندما يجدون أن الحبيبة الزبيبة إسرائيل متورطة في قتل الفلسطينيين ولا يمكن الدفاع عنها او تبرئتها؛ فيصدرون بيانات تدين الجميع وتدعوهم إلى السلم والكف عن إطلاق النار! •••
هناك أيضاً آخرون بدلا من إدانة حصار الحوثة وقصفهم لدماج يدندنون يومياً حول حقيقة أن المخلوع هو الذي دعم السلفيين في دماج.. ونسوا أن "صالح" كان أيضاً الداعم الأول والراعي الذهبي لجماعة الحوثيين ومن قبلهم عند تأسيسها وحتى عشية انفجار الجولة الأولى من حروب صعدة؛ باعترافه هو أمام فقهاء الهادوية، وباعتراف الحوثيين الجدد في صنعاء أن "صالح" دعم الحوثيين لشق الصف الزيدي وحزب الحق، ولمناوأَة الإصلاح! والذي يقرأ ما كان يوصف به المخلوع تبجيلاً وتأييداً على لسان قيادات الهادوية صنعاء وزعماء جماعة الشعار؛ يجد رغبة شديدة في الاعتذار للسلفيين عن انتقادهم بسبب مبدأ وفكرة "طاعة ولي الأمر" التي طالما تعرضوا للسخرية بسببها.. لكن ميزان الحالتين اختلف لدى البعض المدندن؛ فدعم صالح للسلفيين محرّم ولا بد من التذكير به ثلاث مرات في اليوم والليلة قبل الدعم وبعده.. أما دعمه للحوثيين والذين من قبلهم فهو من المباح الذي لا يعاقب فاعله بحكم أن صالح حينها أنه كان إما: نائماً.. أو ناسياً.. أو مرفوعاً عنه القلم! آخرون من دونهم بدلاً من إدانة الحصار والقتل؛ راحوا يخوضون في حديث أشبه بحكاية العراقيين الذين جاءوا يسألون الصحابي الجليل عبد الله بن عباس عن حكم دم البرغوث ونسوا أن يسألوه عن حكم دم الحسين ابن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي طلبوا منه الحضور للقتال معه ثم سلموه للقتلة وقعدوا في بيوتهم يمارسون.. الفلسفة، ويستكثرون إصدار بيان إدانة! هؤلاء كانوا أصنافاً؛ فحسنو النية منهم راحوا ينظّرون لماهية ما يحدث في دماج وهل هو: خلاف عقائدي أو سياسي أو اجتماعي (طبعاً لم يقولوا: أو خلاف فني.. بسبب حقيقة أن القاتل والمقتول في دماج كلهم أجمعين يحرمون الغناء والموسيقى تحريماً باتاً!).. أي هل الخلاف من باب دم البرغوث فلا يدان لأن الدين بريء منه؟ أو هو من نوعية دم الحسين فيدان! لكن خلاصة النظر في الأمر أوصلتهم إلى أن الدماء في دماج هي من نوعية دماء البراغيث ولا علاقة لها بالدين، رغم أنهم تعلموا وحاضروا أن النبي وصف من مات دون ماله أو عرضه أو نفسه بأنه شهيد! ورغم أن سلفهم العراقي الطالح سأل عن حكم دم البرغوث أي أنه أمر دين! صنف ثانٍ راح يشغل نفسه بدلاً من إدانة القتل بالتنظير بأن الذين يموتون في دماج ليسوا شهداء! وراح يفتش في الضمائر وفي سجلات الجنة والنار التي لا يعلمها أحد إلا خالقهما وخالق النساء والأطفال والشيوخ الذين يقتلون في دماج! وبدت حالة الرعب من وصف الشهداء غريبة وكأن صاحبها مدير دائرة الشهداء ويخشى من زيادة العبء على موازنة الهيئة!
••• المهم عجائب من كل لون.. مع أن إدانة حصار الحوثة لدماج لا يعني بالضرورة أنهم وحلفاءهم على خطأ على طول الخط وبأثر رجعي من عام 2004، ولا هو شهادة بأن السلفية والسلفيين على حق أو الفئة الناجية.. ولو أنصف هؤلاء لصنعوا كما صنعت معظم القوى السياسية اليمنية عند اندلاع حرب 2004 عندما أدانوا صراحة استخدام القوة المفرطة من قبل الدولة ضد الحوثيين من حيث المبدأ، ولم يتفلسفوا ليعطوا المهاجم فرصة للعمل براحة. والغريب أن معظم فلاسفة دماج الآن هم الذين كانوا نصوصيين في تلك الأيام ووقفوا بحزم ضد الحرب، ولم يترددوا في الإدانة الحاسمة؛ بل ومن يومها قام حلف غير معلن بينهم وبين الحوثيين ما يزال قائماً حتى الآن! وكما قيل: قليل من الفلسفة يؤدي إلى الزندقة.. لكن فلسفة دماج أدت إلى كثير من الدماء والضحايا من المستضعفين والأبرياء!