حين يعاتب أخوة الشمال أخوتهم في الجنوب بسبب مطالبة بعضمهم بالعودة إلى التشطير، يبادلهم هؤلاء الأخوة عتباً بعتب لعدم مشاركتهم أو التعاطف معهم بسبب ما حاق بهم من الظلم والتهميش تحت ستار الوحدة. وحين يشرح أخوة الشمال لأخوة الجنوب بأن الظلم والتهميش يطالان الغالبية العظمى من أبناء الشمال أيضاً، ينقلب عتاب أخوة الجنوب لأخوة الشمال لوماً وتقريعاً، ويقولون لهم: مابالكم! ماذا تنتظرون؟! ولماذا تلوموننا إذا نحن تحركنا للمطالبة بحقنا وحقوقنا؟! وفي مقابل هذه الصورة، فإن ثقافة العنف والكراهية التي يروج لها بعض أطياف الحراك الجنوبي ضد إخوانهم الشماليين، بل وضد كل من لا يوافقهم من إخوانهم الجنوبيين، قد حرفت الحراك الجنوبي عن مساره في نظر أخوة الشمال. فبعد أن كان الحراك وسيلة للمطالبة بالحق والحقوق، صار مطية لأصحاب الثارات من النظام القائم ولذوي الطموحات باستعادة الأمجاد السابقة بل والغابرة. وفي مناخ كهذا فإنه يسهل على نظام الاستبداد والفساد أن يصور الحراك الجنوبي في أعين الغالبية العظمى من أبناء الشعب اليمني شماله وجنوبه على أنه مجرد واجهة للفتنة والصراع على السلطة. إن سياسة "فرق تسد" تعتبر السلاح الأخطر والأشد فتكاً بالمقهورين. ومع أن الظالمين يتفننون في تمزيق أوصال ضحاياهم، إلا أن هذه السياسة ليست على الدوام من صنعهم وإنتاجهم. فغالباً –ويا للأسف– يتطوع الضحايا أنفسهم بتمزيق صفهم وممارسة الظلم على بعضهم البعض ليوفروا بذلك على الظالم عناء مواجهتهم أو الكيد بهم. وكل ما يفعله الظلمة حينئذ هو الجلوس في مقاعد المتفرجين –كراسي الحكم والسلطة- ليتمتعوا بصراع بين المقهورين هو أشبه بصراع الديكة. وفي حلبة الصراع يكتفي الظالمون بالتحريش وإضفاء جو من الإثارة لتزيد حدة المنافسة. وهو صراع يستمر حتى تتحقق الإعاقة أو الخسارة لأحد الأطراف، والإنهاك والضعف للطرف الآخر. وقد يمضي الظالم بعد ذلك بتكرار المباراة إلى ما لانهاية. حيث يقوم بين الأشواط، برعاية مصالحة أو هدنة يوزع خلالها الفتات، ولكن قلوب المتنافسين على الفوز وعلى القرب منه تبقى مستعرة بنار الانتقام ليتفجر الصراع مجدداً. إنها سياسة قديمة.. قديمة. استخدمها الطغاة كما استخدمها الغزاة عبر التاريخ. وبرغم قدمها، فإنها تبدو للبعض "جديدة"، وتبدو "حكيمة" و"ذكية" لأن الكثيرين لا يقرأون التاريخ. وإذا قرأوه، فليس لأخذ الدروس والعبر، بل لتغذية عوامل الفرقة والكراهية في أوساط المقهورين. ولله در شيخ الثوار القردعي حين عبر عن هذه السياسة أو هذه الدوامة التي وقع أبناء اليمن ضحية لها في العهد الإمامي فقال لهم بكل ألمعية فطرية وبلاغة شعبية: كلن يُبا تجزع العوجا على الثاني وكلكم تحت هج أعوج تجرّونه فجمع في هذه الكلمات البسيطة الإشارة إلى فساد الشعب وفساد السلطة وفساد النتيجة. فالشعب هو الأثوار أو الأبقار التي تجر محراثاً أعوج يتحكم فيه فلاح أهوج. ثم إن الأثوار أو الأبقار يميل بعضها على بعض ويخالف بعضها بعضاً لكي يرمي بالثقل وضربات العصا –العوجا– على غيره. وتكون النتيجة بعد ذلك وتحت ظل الهج الأعوج –النهج– والقائد الأهوج فساد الحرث وفساد الثمرة. وبعد الثورة على الحكم الإمامي وقيام الجمهورية، ظن بعض الثوار أن الحكم الجمهوري لا يعني أكثر من إزالة النظام الإمامي ممثلاً ببيت حميدالدين، على أن يحلوا محلهم ويمارسوا عسفهم وطغيانهم بطريقة تقدمية! فانبرى لهم ضمير اليمن أبو الأحرار الزبيري صادحاً بكلمة الحق والحكمة الخالدة: والحكم بالغصب رجعي نقاومه حتى ولو لبس الحكام مالبسوا فالطغيان هو الطغيان، والغصب هو الغصب، سواء لبس الطاغية أو المغتصب قاوق الإمام أو كاب الضباط. وسواء تحلى بالجنبية أم بالكرافتة. إن الاستبداد ملة واحدة، أو هو بالأصح بدون ملة. وإن المناهج الاستبدادية في الحكم لا تكون ثمرتها إلا الفساد مهما ادعى أصحابها من حسن النوايا أو سلامة الاعتقاد. وكما أسيء فهم الثورة والجمهورية، فقد أسيء فهم الاستقلال. حيث حل العسف والطغيان "الوطني"، محل العسف والطغيان الأجنبي. ومع اختلاف الدرجة بين "الوطني" والأجنبي، إلا أن مرارة الطغيان والعسف "الوطني" كانت أشد وأعتى. وتلك قصة بلاد كثيرة، صار الاستقلال فيها ستاراً لاستعمار أو استحمار جديد، وصارت التنمية وسيلة لتكريس التخلف والتبعية. إن أخطر ما أصاب شعبنا على مدى العقود الماضية، حتى وهو يتصور أنه يخرج إلى العصر ويحقق التنمية والتقدم، هو أن المبادئ تحولت إلى شعارات فارغة من المضمون. حيث تم تحويلها إلى هياكل تجلب المصالح والمنافع لسدنتها ومن يحل رضاهم عليه. أما من يغضبون عليه فجزاؤه الطرد والتهميش. وفي جو كهذا تم إفراغ المبادئ نهائياً من مضمونها؛ فالثورة أصبحت في الواقع ثروة ونفوذاً، والاستقلال أصبح استغلالاً واستبداداً، والجمهورية تصبح جهوية وعائلية، والديموقراطية صارت ديمومة ومحسوبية، والوحدة صارت هيمنة وأنانية. وبعد فلا ذنب للمبادئ ولا جريرة، فهي ضحية لمن أساء استغلالها ولمن أساء فهمها فأعلن رفضه لها أو حربه عليها. فعلى الجانب الأول نجد أن من أساء استغلال المبادئ، يصور للشعب من خلال خطابه الإعلامي والسياسي أنه حامي حمى هذه المبادئ وسادن هيكلها. كما يصور للجماهير أنها إذا قصرت في أداء فروض الولاء والطاعة لهذا الهيكل وسدنته فإنها والوطن مهددان بالصوملة والعرقنة والأفغنة. ثم هو يفعل كل ما بوسعه -مما هو معلوم وغير معلوم- لتعزيز الخوف من التغيير (رُهاب التغيير) عند الجماهير حتى تظل عاجزة عن تصور مخرج من دوامة الاستبداد والفساد، وكأن هذه الدوامة قدر مقدور لا مخرج منها ولا مفر. وعلى الجانب الآخر نجد من استفزهم استغلال السلطة للمبادئ، نجدهم وقد أعلنوا حرباً على المبادئ. وصارت المبادئ بالنسبة لبعض هؤلاء مجرد خدعة. والبعض الآخر تصور أنه آن الأوان للانقضاض على هذه المبادئ وإحلالها بمبادئ وشعارات جهوية أو طائفية. وصار كل هؤلاء يقدمون أنفسهم كبديل لنظام الاستبداد والفساد، في حين أن مبادئهم وشعاراتهم وممارساتهم تؤكد أنهم لن يختلفوا عمن يقدمون أنفسهم بديلاً عنه بل أسوأ وأنكي. وحتى لا يكون قدر ومصير شعبنا معلقاً بالتمسك بالسيء الذي يزداد سوءاً خوفاً من أن يأتي الأسوأ، فإن حراكاً بحجم الوطن شماله وجنوبه هو المطلوب. حراك لا تحركه المصالح الضيقة بل المصالح العليا للشعب والوطن. حراك لا يتجاهل الحقوق ولكنه لا يضعها في مواجهة مع الوطن بل مع الظالم. حراك يخرج باليمن إلى العصر ولا يعود به إلى الماضي القريب أو البعيد . حراك يفرض نظاماً سياسياً تترسخ فيه قيم العدالة والمساواة والحكم المحلي. وفي تصور كاتب هذه السطور فإن اللقاء المشترك هو المؤهل لقيادة هذا الحراك الوطني. ولينضم إليه بعد ذلك ويتحالف معه كل من يقتنع بالتغيير السلمي الحضاري، سواء كان من أطياف الحراك الجنوبي أو الحوثيين. وحتى الأخ علي عبدالله صالح يمكنه كذلك أن ينضم لهذا الحراك المبارك إذا كان قد اقتنع بضرورة التغيير للوطن وحاجته هو للخروج المشرف قبل فوات الأوان.