لا يختلف اثنان حول خطورة ما يحدث من جرائم عامة وسياسية على وجه الخصوص كون الأخيرة ترمي بأبعادها الخطيرة نحو الدولة بنظامها السياسي ومنظومتها الإدارية والأمنية والعسكرية وبسمعتها بما ينعكس كارثياً على المجتمع ككل؛ فيشيع الخوف وتفقد الدولة مكانتها ودورها، وهي الجاني الأول على نفسها وعلى الشعب، كونها معنية بالحزم والحسم في هذا الأمر، ويكفي منها أن تُجري التحقيقات الشفافة والصارمة لمعرفة الجناة من أجل الوصول إليهم وقطع دابر هذا العبث. وإن كان النجاح في مثل هذه القضايا يقوم أصلاً على الحزم الاستباقي ومنع وقوع الجريمة!، فكيف لو غاب عن الرأي العام مجرد التحقيق! التحقيق هذا المخلوق الذي يظهر اسمه فجأة عقب كل حادثة ثم يختفي إلى الأبد! كما لو أنه الإمام المهدي الثاني عشر في المعتقد الشيعي الجعفري الذي دخل السرداب صغيراً ويتوقع خروجه كبيراً قبيل يوم القيامة ليملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً، هل سنحتاج إلى مثل هذه المحاكاة البائسة بما فيها من تفاصيل لطم الخدود وضرب الصدور وجرح الرؤوس ضمن ابتهالات المواكب في حضرة غياب التحقيق عجل الله فرَجَه!. تنتظر الغالبية من الشعب بعد كل جريمة ظهور هذا المخلوق، لكنه يستمرئ الاختفاء مُخلفاً جريمة أخرى في كل جريمة تحدث، بل ويلعب دور المحفز للجرائم التالية، والمتتالية!. إلى ما قبل عام 2012 كانت السلطات في بلادنا تستدعي هذا المخلوق الضعيف – القوي أصلاً- بعد كل "قضية رأي عام" وتُملي عليه ما سيقوله، فيخرج للرأي العام ويردد ما أُملي عليه في دهاليز السياسة الرسمية، أما اليوم فلم يعد يخرج أصلاً!. لهذا المخلوق دورٌ مهم وخطير في كبح جماح الجرائم التي تفتك بأمن الناس وآمالهم بالعبور الآمن لمستقبلٍ أفضل، ويكفي منه الحضور الحقيقي ولو لمرة واحدة بشكل جاد ومسؤول للإجابة على أسئلة جريمة واحدة بما يسهّل اتخاذ القرار المسدد لأي حكم مسنود بتلك الإجابة، على الأقل سيخف معدل الجريمة رعباً من هذا المخلوق لو تجلّى لمرة واحدة، لكنه مع الأسف لم يفعل ذلك حتى الآن، و هو ما يعني أن سلسلة الجرائم ستستمر في حضرة هذا الغياب أو التغييب إن صح التعبير!. ربما هناك في السلطة من يرى بأن "إتيكيت الوفاق" يقتضي عدم المواجهة بالإفصاح عن بعض العصابات التي تقود هذا العبث ممن يُعتقد شراكتها في الوفاق، وهذا في تقديري جريمة بحد ذاتها، لأن ما يحدث من عنف ومن قتل وفوضى ينسف الوفاق، الذي قام على جعل السلام والتنمية هما الأولوية الوطنية الملحة، وليس مجرد اتفاق الفرقاء على مساحات المائدة المستديرة في السلطة، فإذا اختلف شركاء الوفاق في الموقف مما يحدث فأعتقد أننا بحاجة إلى إعادة تعريف الوفاق بأي شيء لا وفاق فيه ولا توفيق!. وإذا كانت بعض الأطراف الإجرامية غير معنية بالوفاق ولا تعترف به من الأساس فالدهشة أضعاف إزاء هذا "التلاعب التوافقي" الذي يتحدث عنه الناس بصيغة "اتفقوا علينا"!. عندما نقول أعيدوا التحقيق إلى واجهة الاهتمام والمكاشفة فإننا نعني أعيدوا الأمل إلى الناس إذ يفقدونه مع كل جريمة تحدث ويطويها الصمت ويعمل على تكرارها الإهمال ومراوحة الكواليس والغموض!. التحقيق المسؤول والشفاف يقول للناس إن الدولة مهتمة وتعيش اللحظة والحدث بما يلبي تطلعاتهم ويحمي حاضرهم ويبني مستقبلهم، وقد تكون الدولة منهمكة بإجراء التحقيق في الجرائم والحوادث، ولكن لا شيء على السطح يثبت ذلك، والجرائم تتوالى وتزداد ضراوة!.