يقول المثل الصيني المشهور للتعبير عن نكران الجميل والمرادف للمثل العربي (جوزي جزاء سنمار) يقول: (اتخذ فلانا جسرا لعبور النهر وبمجرد وصوله الضفة الأخرى قام بتدمير الجسر). ولسان الحال ينطبق على المؤتمرين (الشرفاء) الذين جعلوا من أنفسهم بمناصبهم المدنية والعسكرية وعلاقاتهم الواسعة مطيّة للحوثي للعبور، وسخّروا إمكانياتهم وطاقاتهم لتسليم الحوثي الأسلحة الثقيلة والمتوسطة ومحاولة تسليم اجهزة الدولة المختلفة للحوثي على طبق من ذهب.
ذكرتني هذه الهرولة الغادرة والسريعة نحو احضان الحوثي وبيع المبادئ وخيانة الوطن والنظام الجمهوري الذي أرسته ثورتى سبتمبر وأكتوبر، كل ذلك ذكرني بما فعله الثوار الصينيون القدامى قبل أكثر من مائة عام عندما ثاروا على آخر حقبة امبراطورية صينية (سلالة ال تشين) حينها آزروا الغزاة اليابانيين لمساعدتهم على التخلص من الامبراطورية وبالفعل قضى اليابانيون على الامبراطورية، وتسلم اليابانيون اجهزة الدولة وتوسعت اليابان في معظم أرجاء الصين، وكانت أكبر وصمة عار للصين في التاريخ القديم والحديث للصين، حيث عاثت في الارض فساداً فقتلت ملايين الصينيين، ونصبت مئات المجازر، حتى ان التاريخ يذكر انه تم قتل اكثر من ثلاثمائة ألف صيني في مجزرة نانجينغ المشهورة في يوم واحد، وأحرقت القرى والمدن، واغتصبت ملايين الصينيات في طول البلاد وعرضها، وسرقت أموال الامبراطورية ونهبت خيرات الصين ومواردها، وكان اول ما فعله اليابانيون هو إرجاع الجميل والمعروف لأولئك الثوار (الخونة) بالتخلص منهم وتصفيتهم والتنكيل بهم، واستمر الاستعمار الياباني لأكثر من أربعين عاماً، والتاريخ القديم والحديث ملئ بالأمثلة المشابهة للغدر والخيانة في شتى الممالك والحقب التاريخية، قد يقول قائل هؤلاء يابانيون غزاة أجانب، وهؤلاء يمنيون حوثيون، فأين وجه المقارنه؟ فأقول: صحيح هؤلاء يمنيون لكن فكرهم ليس يمنياً خالصاً، لا يحملون مشروعا وطنيا حضاريا يهدف الى انتشال الوطن من الوحل الذي هو فيه، لا يؤمنون بأن الناس سواسية كأسنان المشط بل هم الساده وما دونهم عبيد، تمويلهم كان وما زال خارجي، حتى ان جنودهم وقادتهم يتم تدريبهم خارج الوطن، وهم ليسوا الا أداة لتنفيذ أجندة خارجية يتم التحكم بهم عن بعد من عواصم اجنبية شعاراتهم ساذجة مشبوهة، وعقيدتهم مشبوهة خالطتها سموم مستوردة غريبة تتبرأ منها الزيدية الخالصة السمحاء التي تعايش في ظلها اليمنيون باختلاف مذاهبهم لمئات السنين في محبة وتعايش وسلام.
يخطأ ويندم من لا يستفيد من دروس التاريخ، ففي الوقت الذي يتطلع اليمنيون والعالم اجمع ميلاد دولة مدنية عصرية حديثه، قوامها المواطنة المتساوية، واحترام الحريات وإطلاق يد البناء والإبداع،وبناء دولة المؤسسات المدنية والعسكرية، وتسخير كل الإمكانات الاقتصادية لنهضة بلد عانى كثيرا، وحرم كثيرا، واغتصب كثيرا، وظلم ظلما كبيرا، أقول وفي هذه اللحظه وفي هذا العصر عصر الحرية، عصر الحضارة الرقمية الحديثة، عصر الأنظمة السياسية الذكية، عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا والإبداع، عصر النمو الاقتصادي المتسارع، عصر الحكومات الالكترونية، يطل علينا زعيم هذه الجماعة التفجيرية المشبوهة مناديا باسترداد الوديعة التي ضاعت منهم والتي بسبب ضياعها حسب زعمه انهارت الأمة الاسلامية حضارياً، ويقول بأن زمن استرداد الوديعة قد اقترب، وكل حاكم مهما كان لونه ليس منهم فهو سارق ومغتصب للوديعة وخائن للدين، طبعا يقصد بالوديعة (الولاية) وإقامة المملكة الحوثية اليمنية.
ليس خفيّا الضعف الموجود والاختلال الموجود في كافة اجهزة الدولة في الوقت الراهن، وقرارات التوافق المتأخرة عسيرة الولادة التي يصدرها الرئيس، والتي عادة ما تجهض قبل ولادتها بسبب التوافق العسير وقوة شخصية الرئيس والتسريبات الإعلامية والحالة المستمرّة لشراء ولاءات القادة العسكريين والسياسيين والمشايخ وأصحاب النفوذ، هذا كله أصاب الجهاز المناعي للدولة- المتمثل في هيبتها وقوتها - إصابة بالغة، الأمر الذي خلق بيئة مناسبة لنمو الفيروسات القاتلة، والتوسع الحوثي الأخير خير دليل على هذا الواقع المرير.
ولعل ابرز ما ساهم في انفتاح شهية هذه الحركة التفجيرية في الفترة الاخيرة عاملان احدهما محلىّ والآخر اقليمي، فأما المحلىّ فهو كسر شوكة آل الأحمر وطردهم من ثكناتهم ومعقل دارهم الامر الذي أوجد قبولا جماهيريا كبيرا في أوساط شرائح كبيرة من أبناء المناطق الشمالية خصوصا، وفي تصوري ان السبب الرئيسي لانتصارهم في حاشد هو سياسة أسرة الأحمر المتعاقبة في التعامل مع قبائلهم من خلال التجهيل المتعمد والتجويع المتعمد والظلم والنهب المتعمد لأبناء وموارد هذه القبائل الامر الذي ولّد سخطا عارما لدى تلك الأغلبية العظمى من أبناءها في انتظار المخلّص لهم من سطوة الظلم والاستعباد وشاء الله ان يضرب الظالمين بالظالمين وهذه سنة الهيه لا تتغير وإن طال الزمن.
وكانت باستطاعة الحكومة في ما مضى خاصة في عهد الرئيس السابق ان تنتصر لأولئك المظلومين من أبناء حاشد غير ان زواج المصالح المتبادلة والمصاهرة المتبادلة بين الرئيس السابق والشيخ الراحل ظل عائقا امام الدولة عن القيام بذلك باعتبار قبيلة حاشد مملكة داخل جمهورية.
اما السبب الإقليمي، فبالإضافة الى تبعية هذه الحركة الواضحة لإيران وتنفيذ الأجندة الفارسية، فإن المتغيرات المتلاحقة في المنطقه في مواجهة الربيع العربي من خلال محور الثورة المضادة التي تتزعمها السعودية والإمارات والتي استطاعت بالفعل ان تكبح جماح الربيع العربي في مصر انطلاقا من خوف هذه الدول من وصول هذا الربيع إليها، ومن منطلق خير وسيلة للدفاع هو الهجوم وضرب الربيع العربي في عقر داره التي تمثل مصر القلب الرئيسى لهذه الظاهرة، فقد أصبحت ترى في حركة الاخوان المسلمين أكبر خطر وجودي يهدد الأسرة المالكة في السعودية، ووجدت في الحوثيين بغيتها في اليمن من منطلق عدو عدوي صديقي، فتم عقد تحالف سرّي بين الطرفين ولو مرحليا لتنفيذ الأجندة السعودية في محاربة وإسقاط الاخوان المسلمين في اليمن، إذ لا تريد السعودية من الحوثيين اكثر من القيام بهذا الدور.
لعل ابلغ وصف في توصيف حروب الحوثي بما ذكره احد الكتاب في مقال سابق لا بأس ان أورده مرة أخرى لكي يفهم القارئ ديناميكية هذه الحركة: الحرب بالنسبة للحوثي لم تعد اختياراً بل طريقة للبقاء. شهود العيان يتحدثون عن 250 سيارة محملة بالسلاح وبالرجال دخلت عمران، وهذه الجحافل لن تحافظ عليها فكرة هلامية مثل «الولاية». لا بد من أعمدة مادية تمسك هذا البناء: المال، والطعام. كما فعل نابليون وهو يقتحم إيطاليا 1796. قال لجنوده: ما ستعثرون عليه ملك لكم، لا أريد منه شيئاً. سقطت إيطاليا ليس لأن نابليون كان لديه خطة جهنمية، بل لسبب آخر. كان كل جندي فرنسي يحارب معركته الخاصة. خلال ساعات، يقول المؤرخون، كان جنود نابليون قد انتشروا مثل الريح. وفي خلال أيام كانوا قد فتشوا كل شيء في إيطاليا بحثاً عن الغنيمة. حصل نابليون على «الوديعة» والجنود على اللذة. لم يمكن بمقدور نابليون أن يطعم كل ذلك الجيش. الأراضي المهزومة هي التي تفعل. الصورة نفسها تتكرر مع الحوثي، إذ ليس بمقدوره أن يظلّ بدون حرب، لأن السلم والسلام سيأكله، هؤلاء الجياع الذين منحهم رتبة «نصير الله» سيأكلون جثته لو توقفت حروبه عن الدوران.
يخطئ البعض من يظن ان للحركة الحوثية رؤية حضارية للحكم والإدارة، ففاقد الشيء لا يعطيه، الرؤية الوحيدة والمتجلية على الأقل حتى الآن هي الأخذ وليس العطاء، فإضفاء صفة القداسة على كبيرهم وشيعته وأحقيته بالحكم دون غيره، وواجب الطاعة والخضوع له دون غيره، وأخذ الزكاة وتخصيص الخمس، واستحلال الغنائم، والقتل بدم بارد، والتفجير لصنع الهيبة المزعومة والصرخة المشبوهة والساذجة هي ما نسمعه ويتكلم عنه الناس، أما ما يتردد في الشارع ويتداوله البسطاء من بسط الأمن والعدل وتوفير الخدمات وانهاء التقطعات التي هي من صنعه أساساً بتجنيد قطّاع طرق مواليين وبمساعدة ما تبقى من المؤتمريين (الأوفياء).
كل ذلك كان بمثابة دعاية إعلامية ماكرة موجهه الى الشريحة الأوسع والقاعدة الجماهيرية مستغلا بذلك الوضع الأمني الهش وقطع الكهرباء وضرب الأبراج وتفجير أنابيب النفط والغاز بمساعدة من أبناء المؤتمر (الأوفياء) وتجار وسماسرة الخيانة والارتزاق.