قرابة نهاية فيلم lord of war، يظهر يوري أورلوف، تاجر السلاح الماهر والعنيد، بعد سنوات من التملص والمراوغة، وهو في قبضة عميل الانتربول الدؤوب والناحل، جاك فالنتاين، وبقدر من الهدوء واللامبالاة يقول: "أكره أن أخيّب أملك، لأنّه بعد قليل سيطرق الباب ضابط أرفع رتبة منك. سيهنّئك على إنجازك، ولكن سيطلب منك أن تخلي سبيلي، لأنّ رئيس بلادك يحتاج إلى أشخاص مثلي". مساء الجمعة، تركت نفسي تستسلم لإغواء هذا الفيلم الذي يجذبك من أول لقطة. يتمحور lord of war (سيد الحرب) المثير والممتع، الذي يلعب دور البطولة فيه الممثل الأمريكي نيكولاس كايج، حول قصة تاجر سلاح عابر للقارات يدعى يوري أورلوف، وهو شخص ينتمي إلى عائلة أوكرانية مهاجرة، هادئ ذكي وجذاب، ويمتلك حس الفكاهة.
الأحداث تقليدية، وهي محاكاة لقصة واقعية على الأرجح. يبتدئ الفيلم بهذه اللقطة البانورامية: يوري أورلوف ينفث دخان سيجارته بينما يجول ببصره على مسرح قتال محتدم ومغطى بالحرائق والرصاص. يعود لينقل بصره إلى الكاميرا ويتحدث هكذا: "هناك قطعة سلاح لكل 12 شخصاً على الكرة الأرضية. السؤال هو: كيف نسلح الأحد عشر الآخرين؟". ثم يظهر مشهد آخر يقوم فيه المخرج أندرو نيكول بتصوير دورة حياة رصاصة بداية من المصنع إلى أن تحط رحالها داخل جمجمة محارب ربما كان يستبسل ذوداً عما يظن أنها رايته المقدسة.
يجوب يوري أورلوف العالم. وتنشأ بينه وبين شقيقه الأصغر شراكة وثيقة، ويتزوج بعارضة أزياء فاتنة، قالت له من أول وهلة إنها تعرف أنه ليس كما يبدو عليه، واكتشفت مع مرور الوقت دناءة ولا أخلاقية المهنة التي يمارسها زوجها، الذي أنجبت منه ابنا. يتباهى يوري أورلوف بكونه باع السلاح لكل العالم "ماعدا جيش الخلاص"، وأسامة بن لادن "ليس انطلاقاً من مبدأ أخلاقي ولكن لأن شيكاته في ذلك الوقت كانت من دون رصيد" كما يتحدث هو عن نفسه.
لا بد أن الفيلم يخبرنا أشياء حقيقية عن تجارة السلاح. ويقال أن حبكته مستوحاة أساسا من سيرة حياة تاجر الأسلحة الروسي الشهير فيكتور باوت، الذي ألقت القبض عليه السلطات التايلاندية في أحد فنادق بانكوك في مارس 2008، وتتهمه الولاياتالمتحدةالأمريكية بالاتجار غير الشرعي ولا تزال تطالب بتسليمه.
يربط الفيلم، بأسلوب آسر، بين انهيار الاتحاد السوفييتي وازدهار تجارة الأسلحة عالميا. ويتناول السيناريو، الذي كتبه آندرو نيكول أيضا، الآلية المضحكة التي تفككت بها ترسانة الكتلة السوفيتية. يقول الناقد السينمائي جودت جالي عن الفيلم: "لقد منح نيكولاس كيج شخصيته الهيئة الحقيرة لتاجر السلاح: التجرد من القيم والنباهة". تتبدى الخصلة الأولى (التجرد من القيم)، كما يقول جالي، عند "المقارنة الساخرة بين شخصية تاجر الموت الجسور، وبين شخصية الجنرال الأوكراني الفاسد الجبان، الذي يبيع الدبابات وطائرات الهيلكوبتر بالجملة في حين يخشى من (الأخ الأكبر) السوفيتي أندريه بابتيست، وبين شخصية رجل ليبيري، وهو رئيس خيالي ذو تركيبة سادية ومستنيرة". أما بالنسبة إلى سمة النباهة عند أورلوف، يوضح جالي، فقد أظهرت لنا بدقة، بعض الجوانب الدينامية في هذا القطاع الذي يجري التستر عليه عالميا.
في الواقع أعترف أنني ليس بمقدوري الكتابة عن عمل سينمائي عظيم كما يفترض بناقد متمرس أن يفعل. لهذا السبب أعطيت لنفسي الحق في الاستعانة بالمقالة العميقة التي كتبتها ريما المسمار في جريدة المستقبل اللبنانية.
كتبت ريما أن الهدف من الفيلم ليس التركيز على الشخص بقدر ما هو الشغف برسم خارطة للعنف والنزاعات في العالم. "على هذا النحو يتنقل الفيلم بين لبنان وفلسطين وسيراليون وليبيريا والبوسنة... كل من تلك البلدان تختصره أرض معركة العامل المشترك بينها هو يوري "رجل السلاح"، تقول ريما. وتلخص وجهة نظرها بشأن الفيلم بهذه العبارة: "كأن الفيلم هو توسيع للمشهد الأول للرصاصة التي تخرج من المصنع وتستقر في رأس أحدهم. أي إنه -بمعنى آخر- تفصيل لتلك الرحلة التي تقطعها الرصاصة بين مقر صناعتها ورأس ضحيتها".
أريد القول ببساطة إلى أي مدى نحن فريسة ل "لوردات" حرب يضاهون يوري أورلوف في البراعة والثراء وانعدم الإحساس أيضا. وعلى غرار فيلم lord of war، يبدو أن حرب صعدة الأخيرة قد هتكت بعض الأستار عن واحدة من أكثر أنواع الأنشطة التجارية سرية وخطورة. وليس من العبث في شيء أن نستحضر هنا تلك الفكرة التي تؤكد على الدور الحاسم الذي تقوم به العواصف في إظهار الأشياء المخفية بالقدر الذي تدمر وتقسو.
شاهدت الفيلم وتذكرت فارس مناع تلقائياً. وعندئذ تواردت إلى الذهن، بشكل ديناميكي، أسماء لامعة لتجار سلاح أقل شأناً ألقي القبض عليهم في الآونة الأخيرة مثل محمد جابر الرازحي، ودغسان الصبري، ناهيك عن القائمة التي أعلنتها السلطات قبل أشهر عبر صحيفة الثورة، وهم إضافة لمناع، عبد الله بن معيلي, وجرمان محمد جرمان, وأحمد عوض أبو مسكه, وحسين أحمد الحثيلي, وعبد الله مبارك الصغير, وعلي ضيف الله السوادي.
وبالطبع تذكرت وزارة الدفاع اليمنية. ومعها تذكرت سفينة السلاح الصيني التي ضبطت نهاية أكتوبر 2009على الشواطئ اليمنية وأثارت زوبعة. قالت الرواية الرسمية أن سمسار سلاح اشترى الشحنة من الصين بوثائق مزورة، لكن هذا السمسار، ويدعى هادي مثنى، كشف القناع عن نفسه وخرج يقاتل عن بضاعته في وضح النهار. كان هذا اللورد وهو وكيل حصري لشركة صينية يجادل بأن الوثائق التي عقد الصفقة بموجبها حقيقية وأن على وزارة الدفاع سرعة تفريغ شحنة السلاح وشراءها فوراً. ولسوف تذعن السلطات في نهاية المطاف للضغوطات التي مارسها هذا اللورد وتمثلت في قطع طريق صافر صنعاء وتسببت في أزمة خانقة للغاز.
شخصيا أميل إلى تصديق هذا اللورد، وأنظر بعين الشك إلى رواية السلطات الحكومية. ذلك أن ميزانية وزارة الدفاع من الضخامة بحيث تتيح ارتفاع معدل الفساد فيها إلى مستوى يوازي ضخامتها. ثم إن الوكالة الأمريكية للتنمية حددت في 2006 أربعة منابع أساسية للفساد في اليمن هي: عملية وضع الميزانية الوطنية، ونظام المشتريات، (والنظام العسكري-التجاري)، وجهاز حزب المؤتمر الشعبي العام.
في فيلم lord of war، كان يوري أورلوف قد توصل إلى هذه النتيجة: "بالنسبة لتاجر سلاح، لا يوجد شيء أفضل من جنود ساخطين و مخازن مليئة بالأسلحة". وإذا استفدنا من الرياضيات الوجودية، فإن العلاقة راسخة رسوخاً عظيماً بين الحرب وانتعاش التجارة غير المشروعة للسلاح والمخدرات. ومن شبه المؤكد أن حروب صعدة طورت محركاتها على مهل وكان الحوثي هو الرابح الأكبر.
تقريباً كل التحولات التاريخية الفارقة التي جعلت اليمن ما هو عليه حدثت في ظروف الحرب الباردة أو على تخومها. وهذا يعني أن تدفق السلاح غير المشروع إلى اليمن بدأ في الستينات من القرن العشرين. حينذاك كانت اليمن ساحة حرب أهلية وإقليمية ودولية.
كانت الضفتان، ضفة الجمهوريين وضفة الملكيين، مرساة لضروب لا حصر لها من الأسلحة والذخائر ورجال المخابرات. على أن الحال في جنوب اليمن لم يختلف كثيرا. وبعد انتهاء الحربين الأهليتين في الشمال والجنوب، راحت الأسلحة تتكدس على الجانبين في سياق التناحر بين الشطرين، وغالباً كان طراز الأسلحة واحد: روسي. وعلى مدى العقود الماضية اتخذ موضوع السلاح في اليمن طابعاً خرافياً. وحتى الآن لم تعثر فيه الحقيقة قط على موطئ قدم.
في الحقيقة، فوضى السلاح في اليمن هي أكثر ما يغيض السعوديين بالذات، ويؤرق منامهم.
في 4 فبراير كتب عبدالرحمن الراشد مقالاً غاضباً في جريدة الشرق الأوسط التي نشرت حينها مقابلة مع حسن مناع قبيل استقالته (أو إقالته) من منصبه كمحافظ لصعدة ببضعة أيام، وبعد أيام من اعتقال شقيقه فارس مناع على خلفية ما قيل أنها صفقة سلاح تم عقدها بتمويل من الزعيم الليبي معمر القذافي قيمته 30 مليون دولار، وكانت في طريقها إلى الحوثيين. معلوم أن الراشد، إضافة إلى كونه مديراً لقناة العربية، هو صحفي من ذوي الحظوة لدى القيادة السعودية أو لدى فروع من العائلة المالكة على الأقل.
حملت المقالة هذا العنوان "تاجر السلاح اليمني". وكانت بمجملها ترتكز على الكلام الذي أدلى به حسن مناع للشرق الأوسط، على الرغم من أن الراشد نقله منسوباً ربما بالخطأ لأحد المواقع الالكترونية. لقد اقتبس الأخير عبارات من حديث مناع، وأثار حولها جملة تساؤلات لرجل حانق جدا ألفى نفسه فجأة مندهشا في أعماقه وفاقدا القدرة على التصديق تماما.
كتب الراشد على هذا النحو: "تحدث المحافظ حسن مناع لأحدالمواقع الإلكترونية عن اعتقال أخيه فارس قائلاً إنه "تاجر ليس إلا، وأن تجارةالسلاح في اليمن منظمة وليست فوضى كما يقال". وعندما سئل إن كان اعتقاله مجرد إيقاعبه، رد مستنكرا "أي إيقاع، ليست له علاقة بما تتكلمون به أنتم.. هذه أمور داخلية،وإذا قلنا ندين الأخ فارس فمعنى هذا أن الدولة نفسها متورطة في هذا الكلام".
وراح الرجل، الذي يبدو أنه اختار الحقيقة على الصداقة، يدون استنتاجه بطريقة ميلودرامية. "المحافظ بصراحة يقول إن كان أخوه متورطا فالدولة متورطة، فهل هذا يعني أنه يزودالمتمردين بمعرفتها وربما موافقتها. وأوضح من تصريحه ومن المعلومات الكثيرة التيظهرت أن ليست كل الحروب حقيقية، رغم حقيقة القتل والدماء والأبرياء الضحايا."
ثم أخذ يوضح كيف أن الغموض الذي اتسمت به الأمور في اليمن سابقاً، لم يعد ممكناً، وذلك ببساطة لأن "الأزمات الأخيرة صارت ضمن اهتمام كثير من دول العالم بالشأن اليمني، خاصة بعد اختيار القاعدة للأراضي اليمنية مركزاً أساسياً مما أضاء النور على كثير من خبايا صنعاء فبانت أمور أغرب من الخيال". ويسترسل قائلا: "اليمن عاش في العقود الماضية على أزمات ضمن لعبة التوازن الداخلي، لكن التدخل الدولي قد لا يسمح باستمرار الوضع كما كان في السابق".
مخاوف الحكومة السعودية، التي يشاع أن اعتقال فارس مناع جاء بناء على طلبها، تتجلى حرفياً في الفقرة التالية من مقالة الراشد: "اعتقال شقيق محافظ صعدة، المدينة المنشغلة ست سنوات في الحرب مع الحوثيين، بتهمة المتاجرة بالسلاح فتح ملفات مغلقة. اعتقل مع تجار سلاح كبار آخرين، ومع أنه تطور مهم في الساحة اليمنية فإن كثيرين يشككون في جدية القرار. وستثبت الأيام المقبلة امتحان السلطات اليمنية باستمرار حبسهم أو إطلاق سراحهم أو ربما الإعلان عن هروبهم، كما قيل عن هروب معتقلي «القاعدة» من سجن صنعاء ذات مرة ولا تزال الأنباء تؤكد أنه كان هروباً مرتباً".
وبهذه الطريقة، التي تفصح عن حيرة مفتعلة، ختم الراشد مقالته: "هل السلطة فاقدة السيطرة، وبالتالي أصبحت نظاماً ساقطاً، أم أنها تمسك بالعصا منمنتصفها وتلعب لعبة كبيرة؟ كلا الاحتمالين خطر للغاية".
الآن وقد توقفت المعارك في صعدة أفكر أن اللحظة ملائمة جداً لمعرفة كل شيء حول هذا الملف الشائك والمفعم بالأسرار. اعتقال فارس مناع وإيداعه في الأمن القومي هكذا بصمت لا يكفي. يجب أن يحال إلى المحاكمة وتوجه إليه التهم رسمياً ليتاح لليمنيين معرفة مصدر الرصاصة التي لا تكف عن قتل أبنائهم ليل نهار. يجب أن يعرفوا العمولات والكيفية التي تتم بها الصفقات والدروب التي تسلكها، والذراع التي توفر الحماية لها. قد يكون فارس مناع متورط وقد لا يكون، لكنني على يقين بأن في جعبته الكثير ليقوله.
آن الأوان لسبر غور هذه الفوضى الممتدة كشلال قذر. هل أقول إنني ما إن كتبت هذه الجملة حتى اعتراني شعور غريب بسخافة أن يحلم المرء بأشياء تبدو الآن مستحيلة، مثل أن تجرؤ على الحلم ب"سبر غور فوضى الأسلحة في اليمن الممتدة كشلال قذر"، وهو الحلم الذي يوازي في لاواقعيته حلم منطقة الشرق الأوسط بتفكيك مفاعل "ديمونة" الإسرائيلي مثلا.
تتكاثر الرايات في اليمن بوتيرة لا نظير لها، ومعها يتكاثر لوردات الحرب وتتكدس الذخائر. وأفكر أن على اليمنيين -وقبل الانقياد بلا تحفظ خلف غواية السقوط المريع- إكمال مسيرة الانضواء تحت هذا العدد الهائل واللامتناهي من الرايات التافهة والمقدسة والجوفاء. وأفكر أن مد التاريخ الأعمى يجرفنا في طريقه بعنفوان، كأي شيء لا وزن له. وإن ما من أحد يعلم، حتى هذه اللحظة، لا الوجهة التي يقودنا إليها، ولا الصورة التي سنصبح عليها ذات يوم، ربما متفسخة كورق مبلول، وربما متناثرة إلى أشلاء.
من يدري، وربما أكثر تماسكا وفتوة، وأصلب عودا.
في نهاية فيلم lord of war، يتوجه يوري أورلوف إلى الكاميرا بصوت مسترخي قائلا: "أتعرفون من سيرث الأرض؟". ثم يتولى الرد على نفسه: "تجار السلاح .. لأن كل شخص سيكون مشغول بقتل الآخر، هذا هو سر البقاء".