دوّت طلقات نارية بشكل مكثف خلف "فاترينة العرض"، فحاول أن يُشاهد ما الذي يحدث، سالت الدماء من إحدى عينيه، غطى كلتا العينين بكفه الصغير، تكوّر جسده من الألم والفجيعة، وفي المشفى تحسس عينه بعد أن أفاق من غيبوبته، كان الطبيب يلفها بضمادة، قال الطبيب أيضاً لمجاهد "لن يستطيع أبن أخيك أن يرى مجدداً بعينه اليسرى، فالزجاج المتطاير قد مزّقها". لم يعلم محمد هيثم (4 سنوات) أنه فقد عيناً أخرى كانت تسهر من أجله، كانت تراه الحياة الدنيا وزينتها، كانت تحميه من مسلحين ملثمين يجولون الأسواق في وضح النهار ويمتهنون تصويب الأسلحة باتجاه صدور تكافح من أجل البقاء. هيثم
في تلك الأثناء كان المسلحون الملثمون يواصلون إطلاق النار بشكل عشوائي على المتواجدين في متجر الذهب بمدينة رداع في البيضاء، الجمعة قبل الماضية، سقط الأب وجرح طفل ونجا آخران بأعجوبة حين احتموا بالخزانة.
صرخت امرأة كانت تبتاع من المتجر مذعورةً، تداعى آخرون، كان المسلحون الثلاثة يلوذون بالفرار بعد أن سلبوا ذهباً ومجوهراتٍ تقدّر بملايين الريالات، كان هيثم يطلق حشرجات أخيره وعيناه تنطفئان للأبد.
اقتحم المسلحون المتجر في الساعة العاشرة والنصف من صباح الجمعة، كان السوق مزدحماً بالمتسوقين، قالوا لصلاح الذي يعمل في المتجر إنهم يبحثون عن "غريم" لهم اختبأ للتو، ولأن هيثم هو المسؤول، يحتم عليه أن يقوم من مائدة فطوره ليتحدث معهم.
"باشر المسلحون إطلاق النار في المحل دون مقدِّمات، احتميت خلف الخزنة مع ابن آخر لهيثم، لكن النار أصابت هيثم وأردته قتيلاً على الفور، كانت الجريمة مخططاً لها سلفاً"، حسب ما يقول صلاح.
وأردف وسام حفظ الله - مالك المتجر- "لم يكن لهيثم عداوة مع أي أحد، فالشاب الثلاثيني محبوب من الجميع، لم نتخيّل يوماً أننا سنفقده في هذه الجريمة البشعة، اهتز الشارع لهذه الفاجعة".
ويضيف "لم يعد بإمكاننا أن نمارس نشاطنا التجاري بصورة طبيعية، نحن نعيش في حالة ترقب ففي أي لحظة قد أكون أنا أو غيري هدفاً لسطو هؤلاء المسلحين والأمر لم يعد يُحتمل"، في إشارة إلى تردي الأوضاع الأمنية وانتشار المظاهر المسلحة في المدينة.
ويعزو المواطنون هذا الرعب إلى أن عصابة تتكون من عشرات المسلحين دأبت على مُمارسة القتل والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم في المدينة بشكل منظّم، فخلال العامين الماضيين تكررت مثل هذه الحوادث -حسب ما يقول أحد المواطنين.
وساعد انتشار السلاح لدى المواطنين وغياب حضور الدولة بسلطاتها الأمنية في تفشي الجريمة المنظمة وجعل المدينة تعيش أوضاعاً أمنية صعبة، يقول صلاح "نقاط الأمن غائبة، هناك نقطة أمنية واحدة خارج المدينة".
وقبل ثلاثة أسابيع هاجم مسلحون مجهولون ثلاثة مدنيين في الشارع الرئيسي للمدينة وسلبوهم كل أموالهم وهواتفهم تحت ضغط السلاح، واقتحم مسلحون آخرون متجراً وأجبروا العاملين فيه على منحهم كل الأموال.
وسيطرت جماعات مسلحة يعتقد ارتباطها بتنظيم القاعدة على المدينة عام 2011، وقوّضت الأمن فيها منذ ذلك الحين، لكن مواطنين ينفون صلتها بمثل هذه الجرائم، وقال وسام "القاعدة لا تُمارس مثل هذه الجرائم".
ويتهم مواطنون الأجهزة الأمنية بالتواطؤ مع المسلحين، وأن غيابها غير المفهوم في شوارع المدينة ساعد المسلحين على التحرّك بحُرية وممارسة جرائمهم بحق الأبرياء.
ونظّم المئات من المواطنين، أمس الثلاثاء، مظاهرةً طالبوا فيها السلطات الأمنية بضبط الأمن والقبض على الجناة وإحالتهم إلى العدالة.
وانطلقت المظاهرة من الشارع الرئيسي إلى أمام مبنى المجمّع الحكومي الذي يقع خارج المدينة، وأكد المشاركون في المظاهرة على استعادة الأمن، وطالبوا السلطات في المدينة بتفعيل الإجراءات الأمنية وضبط المعتدين.
وردد المتظاهرون شعاراتٍ تدعو إلى محاكمة القتلة الذين سفكوا دماء "هيثم"، ورفعوا لافتاتٍ تُؤكد على عدم تمييع القضية، وهددوا بتصعيد الاحتجاجات وتنظيم اعتصام أمام مبنى المجمّع الحكومي إن لم تستجب السلطات الأمنية لمطالبهم.