يصوّت الأتراك، بدءاً من اليوم الأحد، ولأوّل مرّة، لانتخاب رئيس بلادهم، بعد أن كان انتخاب رئيس الجمهورية يتم عبر البرلمان، بعملية تستمر، في حال الاضطرار إلى جولتين، حتى 24 أغسطس/ آب الجاري. وعدّل التحول نحو الاقتراع الشعبي طبيعة مهام رئيس الجمهورية، بعد أن كان يشكّل المنصب المحايد نقطة الالتقاء، التي تجتمع عليها جميع القوى السياسية، بما يشبه الأب الروحي لجميع الأتراك.
ويبلغ عدد من يحق لهم التصويت في تركيا 52 مليوناً و 894 ألفاً و115 ناخباً، يدلون بأصواتهم في 165 ألفاً و108 صناديق انتخابية، بحسب أرقام وكالة "الأناضول". ويتنافس في الانتخابات ثلاثة مرشحين هم: رئيس الوزراء رجب طيب اردوجان، مرشح حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وأكمل الدين إحسان أوجلو، المرشح التوافقي لعدد من أحزاب المعارضة، أبرزها "الشعب الجمهوري"، و"الحركة القومية"، أكبر حزبين معارضين، وصلاح الدين دميرتاش، مرشح حزب "الشعب الديمقراطي".
وتُعلن النتائج الأولية للانتخابات في 11 أغسطس/ آب الجاري، والنهائية في 15، وفي حال لم يحسم أي مرشح فوزه من الجولة الأولى، تُجرى جولة ثانية في 24 أغسطس/ آب، على أن تسبقها الانتخابات في الخارج والمعابر الحدودية.
وبحسب محللين، فإنّ رئيس الوزراء والمرشح للرئاسة، رجب طيب اردوجان، وبعد انتصاره "الحتمي" بالرئاسة، بحسب استطلاعات الرأي، سينتقل إلى قصر شناكالة، بعدما حقق إنجازات ضخمة غيّرت وجه الجمهورية التركية على المستوى الاقتصادي والداخلي والسياسة الخارجية.
ولا يزال العمل جارياً على بناء الدولة الديمقراطية ببطء، وذلك منذ عام 1950، الذي شهد أوّل انتخابات ديمقراطية في تاريخ الجمهورية، أوصلت عدنان مندريس، برئاسة الحزب "الديمقراطي"، إلى السلطة، وحتى قدوم حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة عام 2002. ودفع الأخير بإصلاحات واسعة أدّت إلى تقوية الديمقراطية وتقييد قرارات حلّ الأحزاب. وجرت محاولات سابقة لحلّ "العدالة والتنمية" عدّة مرات، كما جرى حلّ حزب "الرفاه" وعدد من الأحزاب الكردية.
وأُثيرت، خلال حكم "العدالة والتنمية"، مجموعة من العمليات القضائية، كقضيتي "المطرقة" و"الإرغنكون"، التي أضعفت العسكر، وقضت على الدولة العميقة، معيدة العلاقة بين المدنيين والعسكر إلى وضعها الطبيعي، وخففت من السياسات العلمانية المتشدّدة، وسمحت بحرية التدين وارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية، ومكّنت الأقليات من الإعلان عن وجودها، وأصبح من حق الأقلية العلوية تشكيل جمعيات، بعدما كانوا يخافون من التصريح عن انتمائهم المذهبي.
واعتُبرت فترة حكم اردوجان، على الرغم من كل الشوائب، من أكثر الفترات استقراراً وحريةفيتاريخ الجمهورية.
وفي جانب آخر، أطلق حزب "العدالة والتنمية" عملية تسوية للقضية الكردية على مختلفالصعد،سواء عبر إصلاحات واسعة في إطار القوانين، أكسبت الأكراد المزيد من الحريات الثقافية، وزادت الاستثمار في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي عانت من إهمال شديد عبر تاريخ الجمهورية، أو من خلال بدء المفاوضات غير المباشرة، عبر الاستخبارات، مع زعيم "العمال الكردستاني" من سجنه في جزيرة أمرالي التركية، عبد الله أوجلان.
وأسفرت هذه المفاوضات، حتى اللحظة، عن إقرار حزمة من القوانين تحمي المسؤولين، الذين يقومون بالتفاوض المباشر، وتضمن عودة مقاتلي "العمال الكردستاني" ليتم دمجهم في الحياة السياسية، قبل أن تخلص إلى إعلان نائب رئيس الوزراء، بشير أتلاي، في نهاية يوليو/تموز عن التجهيز لخارطة طريق نحو الحل النهائي للقضية الكردية.
لم يكن تأثير أداء "العدالة والتنمية"، في ما يخص القضية الكردية بقيادة اردوجان، محصوراً بالدولة، بل أدى إلى تغييرات جوهرية في رؤية ووعي الحركة القومية الكردية التركية برمتها، على الأقل على مستوى القيادات، والذي بدا واضحاً من خلال ترشيح الحركة القومية الكردية مرشحاً لرئاسة الجمهورية، هو صلاح الدين دميرتاش. وأكّد الأخير أنّه ليس مرشح الأكراد فحسب، بل مرشح جميع المواطنين الأتراك، مما دفع بعض المحلّلين إلى الحديث عن "تتريك" الحركة القومية، أي إحساسها المتزايد بالانتماء إلى الجمهورية التركية، ليؤكد دميرتاش الأمر، مشيراً إلى أنّ الأمر كان متبادلاً؛ فمن ناحية، هناك "تتريك" الحركة الكردية، ومن ناحية ثانية، أثمرت جهود الحركة القومية الكردية عن تغيير الجمهورية التركية نحو أخرى، أكثر احتراماً لحقوق الإنسان والحريات.
وتحدّث الكثير من المحللين أخيراً عن أنّ الأصوات الكردية، التي يجنيها اردوجان في الانتخابات، هي انتصار باهر للهوية، التي اقترحها حزب "العدالة والتنمية" غير المبنية على أساس القومية التركية، كما في السابق، بل هوية أخرى أقرب إلى العثمانية تعترف بجميع الأقليات.
أما من الناحية الاقتصادية، كانت نتائج الإصلاحات الاقتصادية، التي تبنتها حكومة "العدالة والتنمية"، بما جلبته من تنمية ونمو، حجر الأساس في الانتصارات الانتخابية، التي حققها الحزب، بحيث ارتفع مستوى دخل الفرد من 2500 دولار إلى 10 آلاف دولار في فترة حكم اردوجان. وتحوّلت تركيا من المرتبة 111 عالمياً على المستوى الاقتصادي، لتصبح عضواً في منظمة الدول العشرين الكبار، كونها تشغل الآن المرتبة 16 عالمياً على مستوى الاقتصاد.
وارتفعت الصادرات التركية من 25.5 مليار دولار إلى 153 مليار دولار عام 2013، وانخفضت نسبة الفائدة من 63 في المائة إلى 9 في المائة. وانخفض معدل التضخم من 30 في المائة إلى ما بين 8 و9 في المائة، وتحوّلت تركيا إلى دولة دائنة لصندوق النقد الدولي بخمسة مليارات دولار لأوّل مرّة، بعد سداد الديون المتراكمة منذ أن بدأت الجمهورية بالاستدانة منذ 53 عاماً.
ولا تتوقف إنجازات "العدالة والتنمية" على هذا المجال، بل امتد الأمر إلى البنى التحتية، كبناء أكثر من 25 مطاراً وأكثر من 530 مستشفى، وزيادة الطرقات حول الجمهورية، ورفع عدد الجامعات، وغيرها، مما حوّل حزب "العدالة والتنمية"، بقيادة اردوجان، إلى المهندس الحقيقي لنهضة تركيا كقوة إقليمية، بل والهادف إلى تحويل الجمهورية في عيد ميلادها المئوي عام 2023 إلى إحدى القوى العظمى في العالم.
******************* تركيا ما بعد أردوغان رئيساً: المرشحون لرئاسة الحزب والحكومة ساعات تفصل رجب طيب أردوغان عن وصوله المرجّح إلى الرئاسة التركية في أول انتخابات يختار فيها الشعب رئيسه بالاقتراع المباشر، اليوم الأحد. وأنجز أردوغان ماراثون جولاته المكوكية بين الولايات التركية، ومهرجاناته الانتخابية للترويج لبرنامجه الانتخابي ورؤيته ل"مستقبل الجمهورية". كلّفت الحملة الانتخابية الخاصة بحزب "العدالة والتنمية" 55 مليون ليرة تركية (25 مليون دولار)، تمّ الحصول عليها من التبرعات، بحسب ما أعلن المرشح أردوغان، سعياً لحسم السباق الانتخابي من الجولة الأولى بالحصول على أكثر من 50 في المئة من الأصوات. وكان آخر تلك المهرجانات التي نظّمها الحزب الحاكم لمرشحه، أمس الجمعة، في مدينة كايساري، تحدث خلالها رئيس الحكومة عن "الانجازات" التي حققها حزبه، إضافة إلى خططه المستقبلية. ولم ينسَ أردوغان مهاجمة مرشح المعارضة، أكمل الدين إحسان أوغلو، على الرغم من أنه بدا واثقاً من فوزه بمنصب الرئيس الثاني عشر في تاريخ الجمهورية التركية.
وبينما تنظر قيادة "العدالة والتنمية" إلى انتخابات الرئاسة كأمر نتائجه محسومة سلفاً، فهي لا تزال منهمكة بالتجهيز لسيناريوهات مستقبل الحكومة التركية والحزب الحاكم، وخصوصاً في ما يخص مَن سيخلف أردوغان في رئاسة الوزراء والحزب، بعد الصعود المرتقب للأخير لرئاسة قصر "شنكايا" في أنقرة. ويبدو أن المحللين الأتراك أسقطوا اسم رئيس الجمهورية الحالي، عبد الله غول، بعد ثلاثة أشهر من النقاش حول قائمة المرشحين لخلافة أردوغان، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن غول "لن يكون الرجل المناسب بالنسبة لأردوغان"، إذ يحتاج الأخير، بحسب ما يستشفّ البعض من برنامجه الانتخابي وما ورد فيه من تصورات لمهام رئاسة الجمهورية، لرجل ضعيف يقبل بوصاية رئاسة الجمهورية على رئاسة الوزراء. في المقابل، فإن غول رجل قوي وأحد مؤسسي حزب "العدالة والتنمية" ولن يقبل بالتنازل عن صلاحيته الدستورية كرئيس للوزراء لصالح أردوغان. كما أن الخلاف والصدام مع أردوغان، أمر لا يمكن أن يغامر به أي من الرجلين لأنه سيهدد وحدة الحزب وقوته، في الوقت الذي وصل فيه المشروع الإسلامي المحافظ، بعد سنوات من النضال، إلى النقطة التي يستطيع فيها أن يطبّق مشروعه بشكل كامل، لذلك لا بد من رئيس حكومة يقبل بالعمل تحت سيطرة رئاسة الجمهورية. فضلاً عن ذلك، فإن مقربين من غول يشيرون إلى "تعب" الرجل من السياسة الداخلية التركية، وتفضيله تولي منصب "دولي" على رأس منظمة دولية مثلاً.
وهناك العديد من المرشحين لشغل دور رئاسة الحكومة من كوادر "العدالة والتنمية" ومنهم: نائب رئيس الوزراء، بولنت أرينش (أحد المؤسسين الثلاثة للحزب): يشير بعض الصحافيين إلى أنه قد يقبل بتسيير مهام رئيس الوزراء لحين الانتخابات العامة التي ستُجرى في العام 2015، الموعد الذي حدده أرينش لنفسه في وقت سابق، لاعتزال الحياة السياسية بعد أكثر من 40 عاماً من العمل كسياسي إسلامي محافظ. لكن الكثير من المحللين يؤكدون بأن أردوغان يحتاج إلى اسم أكثر ولاءً له وليس لأحد رفاق الدرب المحنّكين والمعروفين بأنه أحد "صقور" الحزب وشخصياته القوية. " المحلّلون الأتراك أسقطوا اسم رئيس الجمهورية الحالي، عبد الله غول، من قائمة المرشحين لخلافة أردوغان " وزير الخارجية، أحمد داود أوغلو: يطلق عليه ضمن صفوف العدالة والتنمية اسم "الخوجا" والتي تعني باللغة التركية "المعلّم"، حيث يجيد داود أوغلو العربية والانكليزية، وهو ذو رؤية ومعرفة عميقة خصوصاً في ما يتعلق بالعالم الإسلامي الذي يعتبره "العدالة والتنمية" المجال الحيوي لتركيا كقوة عالمية وإقليمية. يمتلك أوغلو قوة خطابية ومنطقاً مقنعاً في مخاطبة الجماهير، الأمر الذي سيكون مهماً جداً في قيادة حملة الحزب في انتخابات عام 2015. ولكن، وبحسب مراقبين، لا يزال أردوغان بحاجة إليه في إدارة السياسة الخارجية، خصوصاً في ظل التوترات والصراعات التي تعيشها حدود تركيا الجنوبية في كل من سورية والعراق والمنطقة بشكل عام. وهناك أيضاً شكوك تتعلق بموافقة داود أوغلو أن يكون رئيس حكومة "ضعيف" في خدمة رئيس جمهورية صاحب كاريزما قوية كأردوغان. فضلاً عن ذلك، فإنّ خبرات داود أوغلو في العمل الحزبي ضئيلة ليرأس حزباً جماهيرياً يضم ملايين المنتسبين، مثل "العدالة والتنمية". وزير المواصلات والاتصالات السابق، بينالي يلدرم: يعتبر من حلقة رجال العمال الأكثر قرباً من أردوغان، ويثق به كثيراً. يُعرف عنه أنه ليس لديه أي طموح سياسي، ما يجعله جسراً جيداً بين أردوغان وطبقة رجال الأعمال، وأيضاً مرشحاً ممتازاً لتسيير أمور الحكومة حتى الانتخابات العامة المقبلة. وأحد السيناريوهات المطروحة، أن يعيّن رئيساً لمستشاري أردوغان في قصر "شنكايا" ليؤدي دور رئيس وزراء بالوكالة. نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحالي، نعمان كورتولموش: هو الرئيس السابق لحزب "صوت الشعب "، المنشق عن حزب "السعادة" الذي يعتبر وريث حزب "الرفاه" بقيادة رمز الاسلام السياسي في تركيا، نجم الدين أربكان. وكانت الكثير من الشائعات تحدثت عن أن أردوغان كان قد أغراه بخلافته في رئاسة الوزراء لحثّه على الانضمام للحزب، بعد رفضه مشاركة كل من غول وأردوغان في تأسيس "العدالة والتنمية" عام 2001. وزير العدل السابق، المتحدث باسم البرلمان التركي سابقاً، محمد علي شاهين: يشغل الآن منصب نائب رئيس "العدالة والتنمية"، والمسؤول عن القسم السياسي والحقوقي في الحزب، ما يعني بأنه الرجل الثاني بعد أردوغان. وكان قد سرق الأنظار رغم عمله كجندي مجهول بعيداً عن الأضواء والإعلام والجماهير. يُعتبر شاهين أحد أهم الرجال وراء الاستراتيجيات التي يعمل عليها ويتبعها أردوغان، إذ سيعتبر الرجل فوز أردوغان من الجولة الأولى، بمثابة الانتصار الشخصي له، لذلك يرجّح الكثير من المراقبين أن يكون شاهين أحد أقوى المرشحين لمنصب رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب خلفاً لأردوغان.
وفي حال نجاح حملة أردوغان وفوزه بالرئاسة من الجولة الأولى، يرجح الكثير من المراقبين سعي الأخير نحو إقامة انتخابات نيابية مبكرة في أكتوبر/ تشرين الأول، أو نوفمبر/ تشرين الثاني المقبلين، بدلاً من يونيو/ حزيران عام 2015، وذلك للاستفادة من الشعبية المرتفعة للحصول على عدد كبير من المقاعد النيابية تؤهله لإجراء تعديلات دستورية تضمن له الاستمرار في مشروعه نحو "تركيا الجديدة" التي تكون الصلاحيات فيها مركزة بيد رئاسة الجمهورية، على حساب رئيس الوزراء.
كل ذلك رغم تأكيد أردوغان، أمس الجمعة، في مقابلة تلفزيونية، على أن الانتخابات العامة لن يتم تقديم موعدها، وأن تغيير نظام الحكم أمر غير محسوم بعد، ويبقى عرضة للنقاش سواء بالتحوّل نحو نظام رئاسي على النموذج الأميركي، أو نصف رئاسي على النموذج الفرنسي أو حتى نحو نموذج جديد خاص بتركيا.