عبد الرحمن الجفري في العنوان هو السياسي المعروف الذي تطرقنا أمس إلى بعض أفكاره الانفصالية المنكرة ليمنية الجنوب.. أما أمه فليس المقصود بها والدته الفاضلة (رحمها الله تعالى وأسكنها الفردوس الأعلى) ولكنها.. أم أخرى مظلومة لا يعترف بها، وسيعرف القارىء اسمها في هذا المقال! يبدو أن إقناع شخص مثل الجفري بيمنية الجنوب بالأدلة التاريخية والعقلية والوجدانية أمر مستحيل؛ لأن المسألة فيها عناد وفشخرة سياسية تظهر على الجفري في أيام الأزمات واشتداد سعار مشاريع الانفصال كما هو حادث اليوم.. والحق أن الرجل ليس خفيف التفكير فله رؤية جيدة في قضايا عديدة كما يتضح في حواراته؛ لكنه في أيام الأزمات وعندما يلوح أن الانفصال بات قاب قوسين ينقلب إلى شخصية كاريكاتورية من شدة الفشخرة.. وهي الحالة التي ظهرت عليه أيام مشروع انفصال البيض عندما كان كما يبدو أمين صندوق مؤامرة الانفصال أو المسؤول المالي وهو المنصب الذي يؤهل أي يمني للقيادة في مشاريع كهذه.. ويومها رأيت بعض مظاهر ذلك في الأردن الذي استضاف مراسيم التوقيع على وثيقة العهد الاتفاق بين الأحزاب اليمنية، وكان هو عضواً في لجنة الحوار، وفي أول يوم وعندما تجمع الساسة اليمنيون في إحدى قاعات الفندق لعقد اجتماع للتشاور حول ترتيبات حفل التوقيع؛ فاجأ الجفري الحاضرين بأنه يرفض عقد الاجتماع في فندق أردني لأنه ليس (خلوا بالكم!) أرضاً يمنية (قدو بلاش قال طلعوه الميزان!).. وفرض على الجميع أن ينتقلوا إلى السفارة اليمنية مشياً على الأقدام لكيلا تنخدش حساسيته بالهوية اليمنية، ويظن من لا يفهم أنهم عملاء ولا يحملون ذرة ولاء لأمنا اليمن! تخيلوا هذه الفشخرة اليمنية فائقة الوطنية تنكر اليوم الهوية اليمنية وأن الجنوب.. يمني! وتتحدى من يقدم دليلاً على وجود دولة باسم اليمن في التاريخ مما يبرر انفصال الجنوب! وهي نفس الفشخرة التي كعّفت السياسيين والإعلاميين اليمنيين معهم السير في مرتفعات شوارع عمان ومنخفضاتها ليصلوا إلى أرض يمنية بحتة يجتمعون فيها، وسار يومها الموكب اليماني يتقدمه الراحلان أحمد الشامي بملابسه التقليدية وعمر الجاوي، ومن الأحياء الذين أتذكرهم كان هناك الأستاذ أنيس حسن يحيى.. وهم الذين ضاقت بهم السبل في بلادهم، وأصر بعضهم على ألا يوقع إلا في الأردن! أثناء توليه قيادة الدولة الانفصالية في عدن بدا الجفري وكأنه أسد هصور – وإن كان في الوقت الضائع- مع غياب قادة الحزب الاشتراكي من الصورة الإعلامية: البيض كان في المكلا.. سالم صالح وحيدر العطاس خارج البلاد.. والذين بقوا في عدن تركوا المنصة للجفري ووسائل الإعلام يجول فيها ويصول، ويصدر الأوامر، وللإنصاف فقد ملأ الجو بتصريحاته وتهديداته العنترية أو الفرزدقية إن توخينا الدقة، وساعدته لقانته في الكلام على ذلك مع شيء من البقبقة على طريقة أبو لمعة المصري.. وهو الذي حسم موضوع الانسحاب من عدن –كما قال- بعد تقدم قوات الوحدة داخل عدن؛ بأن صلى ركعتين صلاة الاستخارة وتوكل على الله وأصدر أوامره بالانسحاب! ومن الواضح أنه لم يفعلها بعد ذلك (ولا من قبل) خوفاً من أن يهديه الله إلى الاعتكاف في المسجد الحرام وترك الجنوب والسياسة؛ فقد واصل الفشخرة الإعلامية خارج البلاد من خلال تشكيل منظمات مثل "موج"، ونشط في لندن والقاهرة وقبرص رغم أنها أرض غير يمنية وغير جنوبية! وهدد أكثر من مرة بإسقاط نظام صنعاء قريباً! وها هو اليوم يعيد الفشخرة في عدن بعد عودته إليها، ويتحدث وكأنه بطل ثورة شعبية وقائد مغوار والجنوب ينتظره على أحر من الجمر! أعرف أن الأوضاع اليوم في اليمن والجنوب خاصة تختلف عما كان عليه الأمر أيام انفصال البيض، وقد يحقق الجفري حلمه في تحقق الانفصال ليس لأنه حق ولكن لأن المؤامرة على الوحدة هذه المرة ستكون من داخل.. صنعاء! من الإيجابيات في حوار الجفري الأخير أنه أقر أن معظم الجنوبيين لم يكونوا مؤيدين لهم في مشروع الانفصال أو كما قال: "في حرب 1994 معظم شعب الجنوب ما كان معنا!" وكذلك اعترف بما قلناه هنا قبل أسبوعين أن النهب الذي حدث طال المؤسسات العامة، ولم يمس بيوت المواطنين كما يصر جهلة الحراك على الترويج له لتحريض العامة على إخوانهم ووحدة وطنهم وشعبهم! أما كيف نقنع الجفري وأمثاله بأن الجنوب يمني والجنوبيين يمنيون؛ فيبدو أنه لا توجد إلا طريقة الحكيم الشعبي الذماري علي بن زايد التي نفعت مع أمثاله في الجهل والعناد! وطريقة علي بن زايد رواها القاضي إسماعيل الأكوع في مقدمة موسوعته الفريدة "الأمثال اليمانية" في معرض بيان تأثير الأمثال الشعبية على العامة في عصور الجهل حتى كانت تنجح في حسم مشاكل لم تحسمها نصوص القرآن والسنة! والذي حدث أن مفتي ذمار القاضي أحمد بن أحمد العنسي خرج إلى إحدى القرى لقسمة ميراث رجل بين ورثته، ولما تبين أن على المُتوفى دَيْناً أخذ يخرج قيمته من أصل التركة قبل توزيع الباقي وفق أحكام الإرث في الشريعة الإسلامية؛ لكن الورثة رفضوا ذلك واستنكروه، ورفضوا حجته عندما أخبرهم بقوله تعالى "من بعد وصية توصون بها أو دين".. فلما رأى القاضي إصرارهم قرر الانسحاب من المهمة، وفجأة تذكر مثلاً مشهوراً لعلي بن زايد فقال لهم: إن علي بن زايد يقول: "الدّين قبل الوراثة!" فما كاد الورثة يسمعون المثل حتى استجابوا للقاضي وقالوا له: اقسم يا قاضي! الجفري وأمثاله ممن يرفضون كل الأدلة التاريخية والاجتماعية والوطنية والوجدانية عن يمنية الجنوب ووحدة اليمنيين عبر التاريخ؛ لن ينفع معهم العقل والمنطق، والعيش والملح، والنضال في رابطة أبناء اليمن؛ ولكن ينفع معهم أسلوب قاضي ذمار مع جهلة القصة الذين أفحمهم بالأمثال الشعبية بعد أن فشل أن يحقق ذلك بالقرآن الكريم.. والأسلوب الذي نقترحه مع الجفري وأمثاله ليس أمثالاً شعبية ولكن بمحاججتهم بالشعر والأغاني التي تثبت يمنية الجنوب منذ الأزل فهو الأصل والفصل يمنياً.. وقد ذكرنا أمس نماذج من شعر امرئ القيس التي يفتخر فيها بيمنيته، وهناك شاعر آخر نبهني إليه الشاعر عبد الغني المقرمي هو: عبد يغوث الحارثي من شعراء الجاهلية الذي أثبت يمانيته ويمانية حضرموت في قصيدته الشهيرة التي رثى بها نفسه قبل إعدامه في الأسر: ألا لا تلوماني، كفى اللوم ما بيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا فيا راكباً إما عرضت فبلّغنْ ندامايَ من نجران أن تلاقيا أبا كربٍ والأيهمين كليهما وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترَ قبلي أسيراً يمانيا واليوم نحاجج الجفري بأغاني مطربين مشهورين من أرض حضرموت ذاتها؛ مثل المطرب الحضرمي كرامة مرسال الذي طالما أنشد أجمل الأغاني في حب اليمن والشوق إليه، والحنين لأرضه وناسه ووديانه وهوائه بصوته الرخيم العذب الذي يفجّر في النفوس ما هو أعظم من جوازات السفر والبطاقات الشخصية: هبّت الريح من أرض اليمن، ما أجمل الريح هبّت من رياض اليمن فيها شذا الورد من صنعاء ومن عدن.. هيجتني وهزتني لدوره شوّقتني وما أشتاق غيره من ديارك هبت النسمة لمشتاق والهوى راق.. أما الحضرمي الآخر أبو بكر سالم بلفقيه فرائعته "أمي اليمن" أشهر من كل نعرة باطلة وهوى يمزق الأرحام ويقطعها: من يشبهك من؟ أنت الحضارة.. أنت المنارة أنت الأصل والفصل والروح والفن.. من يشبهك من؟ أمي.. أمي اليمن في داخل القلب حبك في الفؤاد استبى من عهد بلقيس وأروى والعظيمة سبأ يا كاتب التاريخ سجّل بكل توضيح أنت الأصل والفصل والروح والفن من يشبهك من؟ (م نستدل بأمثال الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم الذي تغنى بحب اليمن، وقضى سنوات عمره الأخيرة في صنعاء؛ لأنهم سيقولون: هذا أصله من تعز من الحجرية.. من بني حماد تحديداً!). هل عرفتم الآن من هي أم عبد الرحمن الجفري المظلومة التي لا يعترف بها؟ إنها اليمن: الأصل والفصل.. التي لو واجه الجفري هامات يمنية جنوبية مثل الحضرمي القيادي البعثي علي بن عقيل بن يحيى، أو الحضرمي الماركسي عبد الله باذيب، أو العدني البعثي محمد سعيد مسواط، أو حسين باوزير أو سالمين أو علي عنتر لقالوا له بصوت واحد: أمنا اليمن! علي عنتر بالذات أتخيل أنه سيقف أمام الانفصاليين المنكرين ليمنية الجنوب: الجفري والبيض ويقول لهما: يا علي سالم: أمك اليمن.. فاهم! وأنت يا جفري: أمك اليمن.. تمام! فيرد هذا بعناده المعروف: لا.. هذه أم علي سالم!