قصة أمتنا مع الاستبداد السياسي حزينة مؤسفة. فبرغم ما أكرم الله به هذه الأمة من دين يرفع من قدر العدل والشورى والمسئولية الفردية والاجتماعية، وما حباها به من الموارد والثروات؛ إلا أنها -بنهج الاستبداد والحكام المستبدين- صارت في ذيل قائمة الأمم. وما قصة شعبنا في تاريخه الحديث والمعاصر -ناهيك عن القديم- ببعيدة عن قصة أمتنا. إلا أننا ندعي نحن اليمنيون أن لنا خصوصية! وتلك فيما يبدو دعوى كل شعب. فلنتأمل في خصوصيتنا، أو بالأصح في بلوانا ومصيبتنا! حين قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م وما سبقها من ثورات وحركات ضد الحكم الإمامي، كان المبرر والدافع هو مناهضة الاستبداد. وبعد أن بذل الأحرار جهدهم لإصلاح الإمامة وإقناع الأئمة بالشورى، وجدوا أنفسهم أمام طريق مسدود. فكان لابد من التفكير في تغيير النظام الإمامي واستبداله بنظام جمهوري يخرج بالحكم من أسر الفرد والعائلة والسلالة والمذهب. ودفع الشعب اليمني في سبيل ذلك عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى وسنوات طويلة من النضال لحماية الجمهورية وترسيخ دعائمها. وحين اندلعت شرارة ثورة 14 أكتوبر1963م بعد ما يقرب من 125 عاماً من الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، فإنها كانت تتويجاً لنضال طويل في مواجهة أعتى قوة استعمارية. حيث قامت تلك القوة التي اشتهرت بالمكر والدهاءن ومن خلال سياسة "فرّق تسُد"، إلى تقسيم الجنوب إلى محميات وسلطنات، في وضع تصور كثيرون له الدوام والاستمرارية حتى وإن رحل الاستعمار. إلا أن إرادة الشعب للاستقلال كانت أقوى من قبضة الاستعمار القوية، كما كان توقه للوحدة أقوى من التقسيم الماكر اللئيم. وحين تحققت الوحدة اليمنية 1990م التي طالما حلم بها اليمنيون وناضلوا من أجلها، رأى فيها اليمنيون مخرجا من الضيق والعسر إلى السعة واليسر، ومن الصراع والشمولية إلى الوفاق والتعددية. ورغم أن الوحدة تحققت بقرارين فوقيين سلطويين من رأسي نظامي الشطرين – لازال كل منهما يمنُّ على الشعب بقراره حتى الآن – إلا أنها جاءت تجسيدا للواقع الاجتماعي والتاريخي واستجابة له. وفي مسيرة الثورتين (سبتمبر وأكتوبر) وحتى تحقيق الوحدة، حصل جنوح وابتعاد عن الهدف الرئيسي لكل من الثورتين. ولكن ذلك الجنوح لم يتمكن من الرسوخ بسبب التقلبات المستمرة والصراع على السلطة داخل كل شطر وبينهما. وفي تلك الظروف مثلت الاستقطابات الإقليمية والدولية انتقاصاً مباشراً من سيادة واستقلال البلاد ومن قدرتها على النهوض الذاتي والتنمية الحقيقية. ومع ذلك فقد بقيت أفكار الثورة والجمهورية والاستقلال والتنمية تتوهج في العقول والقلوب على أمل أن تستقر الأوضاع ويلتفت اليمنيون للتفاهم والبناء عوضاً عن الصراع والهدم. وجاءت الوحدة كبارقة أمل، بل كحلم جميل تم تحقيقه لتعويض اليمنيين عن خيبة أملهم في الاستقلال المنقوص والجمهورية المشوهة. وارتفعت الآمال والطموحات إلى عنان السماء حين ارتبطت الوحدة بالديمقراطية والتعددية بعد سنوات طويلة من حكم الحزب الواحد في الشطر الجنوبي والحكم العسكري في الشطر الشمالي. وفي خضم الفرحة وطفرة السعادة نسي اليمنيون أو تناسوا أن الجمهورية الشوهاء والاستقلال الناقص لا يمكنهما أن ينجبا وحدة وديمقراطية معافاتين من التشوه والنقص. فبعد فترة وجيزة من الفرحة والاستبشار، كان كل من النظامين الشطريين –اللذين لم يتحدا بالفعل كما توحد الشعب الموحد– قد كشّر عن أنيابه لابتلاع أو إزاحة الآخر من طريقه. وكان ما كان مما سُمي زوراً بانتصار الوحدة وكان في حقيقته رصاصة مصوبة إلى صدرها. ومنذ السابع من يوليو 1994م، فإن الوحدة والديموقراطية انضمتا كمحضيتين اضافيتين في دار الرئاسة، جنبا إلى جنب مع الثورة والجمهورية والاستقلال. إن إفراغ المعاني العظيمة التي ناضل شعبنا وضحى من أجلها وتحويلها إلى شعارات مجردة تخدم الممسك بمقاليد السلطة ومن التف حوله، ليس أقل خطراً ولا أشنع قبحاً من محاولة الإجهاز على هذه المعاني والتخلص منها. فألئك الذين تتهمهم السلطة بأنهم ينقمون على الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، يجدون مبرراً ومشروعية لنقمتهم في أن هذه المعاني صارت مجرد هياكل فارغة تختبئ وراءها معانٍ مغايرة تماما. فالثورة صارت ثروة لكبار المتنفذين، والجمهورية صارت جهوية وعائلية، والوحدة صارت غنيمة وهيمنة، والديمقراطية صارت ديمومة للحاكم بأمره وأغلبية مريحة لحزبه. إن السلطة المطلقة مفسدة لأي شخص مهما حسنت نواياه أو حتى سلوكه. وإن أي شخص يتم إعطاؤه سلطة مطلقة يصير كل همه -وخصوصاً بعد مضي فترة من الزمن هو أن يلغي معارضيه بشتى طرق الإلغاء، ويستقطبهم بشتى طرق الاستقطاب، ويهمشهم إذا لم يقدر على الإلغاء أو الاستقطاب. والخطير في الأمر أنه قد يعتبر كل من يراهم أو يرون أنفسهم أو حتى يراهم غيرهم أنداداً له يمكن أن ينصحوه أو ينتقدوه أو يحلّّوا محله في أي ظرف, الخطير أنه يعتبر كل هذه الكفاءات معارضة أو على أحسن تقدير غير جديرة بالثقة. والحقيقة أن هذه اللعبة الخطيرة (لعبة الإلغاء أو الاستقطاب أو التهميش) "نظيفة" كما يمكن أن يقال, إلا أنها كلفت اليمن أرضاً وإنساناً ثمناً باهظاً. لقد تم استنزاف طاقات وعقول في مجرد لعبة لا تبني بقدر ما تهدم ولا تجمع بقدر ما تفرق. ومع كل جولة من جولات هذه اللعبة –الانتخابات تم تفريغها من محتواها الحقيقي وصارت جزءاً من هذه اللعبة– تطفو على السطح مجاميع من المنافقين والمرتزقة الذين لا هم لهم إلا تنفيذ الأوامر والتوجيهات دون نقاش من أجل استمرار تدويرهم في المناصب وجمع الغنائم. إن البعض يحاولون إقناع المواطنين بأن الاستبداد والقوة التي يمتلكها ضروريان للحفاظ على "الوطن ومكتسباته"! وما درى هؤلاء –أو أنهم يدرون ولكنهم يتغابون– بأن السلطة إذا لم تكن مقيدة زمنياً بفترة محددة لا تتجاوزها فإن هدفها ينقلب إلى تسخير ما كان ينبغي أن تخدمه، لخدمة ديمومتها. وأن السلطة إذا كانت مطلقة وغير خاضعة للحق وممتثلة بأمره فإنها تصير حاكمة بأمرها وتصير فاسدة مفسدة. وأن القوة التي يملكها الاستبداد لن تكون مسخّرة لحماية "الوطن ومكتسباته" بقدر ما هي مسخّرة لخدمة ديمومة الاستبداد. وما نراه اليوم من مؤشرات ومظاهر ضعف الولاء الوطني – أو ما أسماه السكرتير الصحفي للرئيس صالح ب"جلد الذات"- وانتشار ثقافة الفساد وعدم احترام المواطنين للقوانين والأنظمة، وكذا انتشار ثقافة العنف والكراهية، ليست إلا انعكاساً لانسداد أفق التغيير السلمي الحضاري وانعدام ثقة المواطنين في السلطة وعدم احترامهم لها. وهذه المؤشرات والمظاهر ليست خطراً على السلطة فحسب، بل إنها خطر على المعارضة السياسية ما لم تقم بدورها في عملية التغيير. وإنه ما لم يقتنع الرئيس "صالح" بأن عليه أن يقدم مصلحة اليمن على السلطة، أو تقتنع المعارضة ممثلة في اللقاء المشترك بأن عليها أن تتخذ خطوات حاسمة في مواجهة الكارثة قبل فوات الأوان، فإن الاستبداد السياسي والمؤشرات الخطيرة الناجمة عنه خطر داهم على وحدة اليمن وأمنه واستقراره.