هو عام في عدد أيامه وأسابيعه وشهوره لكنه دهر ثقيل جثم ويأبى الرحيل.. هكذا تبدو الصورة للفترة من 21 سبتمبر 2014 إلى الآن حين داهمت العصابات العاصمة صنعاء واستولت عليها وأسقطت الدولة، وبات اليمنيون لا يرون في الأفق إلا شبح الموت والخراب، ولا يشمون إلا رائحة الدم والبارود.. عام يأبى أن يرحل رغم أنه قد أخذ ما لم تأخذه عقود من أحبابنا وصحتنا وسلامة أطفالنا.. يمكنك أن تقول باختصار إنه عام يشبه إلى حد كبير وجه أبو علي الحاكم الذي أطل على صنعاء من تلة الصباحة مصرحاً أن اجتياحه صنعاء هو تجسيد لإرادة الله، قد لا يكون بالضرورة يقصد الله الذي يعبده ويؤمن به العالم كله، لكنه بالتأكيد يقصد الله الذي يدعون أنهم أنصاره، وينهبون ويقتلون ويفجرون المنازل والمساجد باسمه.
كان عاماً كئيباً وأسوداً منذ أن استقبلت فيه العاصمة صنعاء أكبر عدد من القتلة والمجرمين واللصوص وقطاع الطرق والمرتزقة الذين تجمعوا حول بندقية يرون فيها مصدر رزقهم وانطلقوا بهتافاتهم وزواملهم يدمرون كل شيء له علاقة بالحياة. 21 سبتمبر هو اليوم الأشد سواداً وقتامة في تاريخ صنعاء ربما منذ أن وضع سام بن نوح لبنتها الأولى، حين أستجمع صبي الكهف كل سفاهته وطيشه وأعلن ساعة الصفر لمجاميع المرتزقة المخيمين على مداخل العاصمة ليهجموا عليها معبأين بالضغينة التاريخية، ومدججين بالجهل والفقر والبارود. قال لهم إن الإسلام لن يستعيد مجده إلا حين تعود الولاية لأصحابها، وفي طيات كلامه لن تأكلوا إلا حين أصير سيداً على البلد بكاملها، لا عليكم وحدكم، ولن تسيطروا حتى أكون أنا صاحب الكلمة العليا في البلاد، ولن يكون لكم شأن حتى أكون أنا وحدي صاحب الشأن، مختزلاً "الولاية" و"الإسلام" و"آل البيت" و "العترة المطهرة" و"الذين اصطفينا" في شخصه المدلل. في مثل هذه الساعات من ليالي سبتمبر العام الماضي كان الهمج يشحنون بندقياتهم برصاص الحقد، على كل ما له علاقة بالحياة وعلى كل معالم الدولة، ويستعرضون في مخيمات المطار والصباحة والسواد حكايات أجدادهم: "العكفي، والطايفي، والعامل، والقاضي، و.....إلخ" الذين كانوا يسافرون إلى مناطق ما كان يعرف ب"اليمن الأسفل" وهناك يتحولون إلى سلاطين وإقطاعيين يمتلكون البشر والتراب ويتحكمون في كل شيء تقريباً، على اعتبار أن لهم ولعمائمهم ولبندقياتهم الطويلة السيادة المطلقة على الأرض والإنسان. كانت الأسمار والمقايل في مخيماتهم المشؤومة زاخرة بحكايا تستعرض "الفردوس المفقود" وتعبق بالحنين إلى زمن الامتيازات المفتوحة التي احتكرتها السلالة واستفادت معها شريحة من المؤمنين بخرافة الولاية ما يربو على ألف عام. اتجهوا نحو صنعاء في لحظة كانت "الدولة الرخوة"، بضعفها وتهالكها وضبابية الرؤية لدى مسؤوليها، تغري كل المتطلعين والطامحين بالزحف نحو قصور الحكم بعد أن سلمت لهم ضواحي العاصمة بشكل شبه رسمي وسمعوا أن استيلاءهم على بوابة صنعاء الشمالية لا يعني أكثر من كونه "عودة عمران إلى أحضان الدولة". قرروا تحويل صنعاء إلى مكتب لإدارة المشروع الإقليمي لأسيادهم في إيران في لحظة كان الإقليم منشغلاً بإضعاف نفسه، ويعيش حالة اللاوعي، ولم يكن حينها قد انتبه إلى أن هناك من يخطط ويعمل على مدار الساعة لأن تصبح هذه البقعة الجغرافية منصة للمشروع الفارسي ليصدر منها التوتر والقلق، ويطلق منها صواريخه وقذائفه على العرب في وسط وشمال الجزيرة العربية، تمهيداً للوصول إلى إسرائيل! هرعوا بشاصاتهم نحو العاصمة في لحظة كانت معسكرات ومؤسسات حليفهم المخلوع صالح تفتح أبوابها وتناديهم "هيت لكم" فاستلموها بسلاسة ودونما أدنى جهد بكل ما فيها من عتاد وذخائر، وكيف لهم أن لا ينالوا ذلك وقد أصبحوا حلفاً واحداً التقى فيه أصحاب مشاريع استرداد الحكم والسيطرة، وإن استدعى الأمر ذوبان الطائفي في المناطقي، والديني بالقبلي، والإمامي بالعائلي، فما هم إلا عصبة واحدة تحاربت وتصالحت على نهب سلال المزارعين والتجار منذ قرون.
داهمت تلك العصابات العاصمة في غفلة من الزمن ووجدت من المثقفين والنخب والأحزاب والمنظمات من يعتبر ذلك الاجتياح نتيجة طبيعية لتقدم "قوة صاعدة" و "انتفاضة على القوى التقليدية" و "ثورة من أجل الشعب" و "عملية جراحية سريعة" وكانت كل تلك التوصيفات إما بفعل الحقد على أطراف سياسية، أو التأثر بما ضخته المنظومة الإعلامية التي شيطنت كل ما له علاقة بثورة فبراير، أو كنتيجة لالتقاء مشروع هذه الجماعة الظلامية مع أشواق قديمة ومكبوتة لدى بعض المحسوبين على النخب التي كانت ترتدي لبوس الليبرالية والتحرر بينما كان داخل كل واحد منهم إمام صغير استيقظ في لحظة "الإنتفاشة". أعتقد أن الجميع لا يزال يتذكر أن أكبر الأحزاب اليسارية استجمع كل حداثته وتطلعه للمستقبل وتوصل إلى أن ما حدث في صنعاء "كأنه انقلاب". وفيما أفصح كثير ممن كانوا يقدمون أنفسهم كحقوقيين وليبراليين عن هوياتهم وهتفوا بالصرخة وحفظوا زوامل الموت، فقد ذهب آخرون في رحلات علاجية طويلة المدى وآخرون اختفوا في السرداب، ولم يظهروا حتى اللحظة.
داهموا صنعاء في لحظة انتعاش الهويات الصغيرة، والتطلعات اللاوطنية، وذهب كثيرون إلى الحديث عن هويات مناطقية وجهوية ظناً منهم أن جماعة الحوثي ستأتي إلى صنعاء لتقضي على الإصلاح فقط وتخلي لهم الساحة قبل أن تكشف لهم الجماعة عن وجهها الحقيقي. داهمت العصابات صنعاء في سبتمبر 2014 وأسقطت الدولة الهشة التي كانت قائمة ولم تكن صنعاء سوى البوابة التي اقتحمت منها اليمن الكبير .. لتنطلق بعدها إلى أرجاء البلد وتفتح المزاد للقتل والخراب لتصبح اليمن سرادق عزاء مفتوح لا يكاد ينتهي. بدأ عام أسود كئيب ولن ينتهي، حتى لو انتهت أيامه، إلا بعد أن ينتهي الكابوس المزعج وتعود الحياة إلى طبيعتها ويجد اليمنيون دولة تطبب الجراح الغائر، وترمم النسيج الاجتماعي الذي مزقته مليشيات جاءت من القرون الغابرة.