من يملك الصورة الكاملة لحزن يكتسح القرى بفاجعة واحدة. عايشت هذا الحدث قبل سنتين، منذ وصول أول جثمان شهيد لمنطقتنا في 18 رمضان. وهي المرة الأولى التي سأرى فيها دموع رجل سبعيني يذرفها أسفًا على شاب ثلاثيني استطاع بأسلوبه الهادئ صنع صداقات مع أجيال متفاوتة. كان عاصم شداد، صديقي الذي أكتب عنه الآن، قائدًا في إحدى جبهات المدينة، وقبل ذلك كان شخصاً اجتماعياً يعمل على إطفاء الخصومات تطوعاً من تلقاء نفسه، كما أنه يشارك الشباب في الملعب الترابي، وكنا بصدد تشكيل فريق للمنطقة وما زالت قيمة الكرة التي دفعها بحوزتي.
لا أحد ممن عرفت وعايشت يراعي العدل في مشاعر الناس مثل عاصم. سيارته المستعارة، وهي نيسان قديم، لا تقف عن منفعة الناس، حتى أن امرأة دعته لحمل الحطب في صندوق السيارة، المرأة هي زوجة رجل متزوج امرأتين، ذهب عاصم إلى مسافة من منزل زوجة الرجل الثانية، ربما تدعيه هي الأخرى لحمل الحطب، قد تكون رأته وهي يوصل السيارة لبيت الأولى فتحزن. في عرس أخيه الصغير، تم إطلاق الأعيرة الحية والألعاب النارية، وبعد عرس أخيه كان عرس أحد أبناء القرية وهو من أسرة ذات دخل محدود، تكفل عاصم بحفلة هذا العرس كي لا يحس هذا الشاب بأن فرحته ناقصة، وليشعر بنفس شعور أخيه. حارب عاصم في صعدة، منذ كان جنديًا هناك.. وعندما انتشر الطاعون المتمثل في فتنة التمرد الميليشاوي إلى تعز، لم يتوان لحظة عن مواجهته. اختار رفيقه الذي سيستشهد معه. ماهر، وهو جندي حارب الإرهابيين في مأرب وحضرموت وأبين، وانضم لثورة الشباب في 2011 لينقطع راتبه بعد ذلك، مصدر دخله الوحيد وبه يعول زوجة وخمسة أبناء، ليعمل في بيع القات. عندما أعود من صنعاء إلى تعز، أول من يستقبلني عاصم. أتذكر أثناء مواجهات جنود من الثورة مع وحدات من الحرس الجمهوري التابعة لنجل المخلوع، في تعز. عدت من صنعاء واستقبلني عاصم بالفرزة عبر دراجته، مشينا عبر طرق ثورية لنصل إلى الخمسين، كانوا هناك يتمركزون. في الخمسين هناك، وفي 2011 كان عاصم وماهر ورجال ينتمون للثورة من مناطق متفرقة، ومن عزلتنا أيضًا. هؤلاء كما تبدى لي أول من امتلكوا بعد نظر للأحداث، وعلموا أن حربًا ستندلع في اليمن. لقد استشهد منهم الكثير، من بينهم شخصية اجتماعية التقينا بها في ذلك اليوم، ويدعى عاطف الكربي من أبناء الحشا التابعة لمحافظة الضالع، كان صديقًا لعاصم وبنفس المكان كان ثوريًا في الخمسين بتعز، وهناك، الشهيد عبده أحمد، وكثير من الأفراد الذين سيسقطون جرحى خلال الحرب الأخيرة.
استشهد عاصم وماهر أيضًا. عاصم قريبي من جهة الأخوال وماهر، ابن عمتي.. لم يكن عاصم أول شخص في منطقتنا تأخذه الحرب. كنا سوية حين وصل إلينا نبأ أول ضحية. كان الشاب صدام الفتيحي، جنديًا في عدن، يرفع راتبه لوالد شريكة حياته المستقبلية، اقتحمت المليشيا عدن، سمعت صوته قبل خبر استشهاده بليلتين، كان يتحدث عن مجاميع من الحراك الجنوبي تحاول اقتحام المعسكر، قال لأخيه الكبير: نواجه الحوثيين والحراكيين.. تم تسليم المعسكر، غادر مع صديقه الجندي نجيب على دراجة نارية، وفي لحج تقطعت لهما نقطة بمظهر مزدوج، قاعدة وحراك، وأتى النبأ أنها قتلتهما. كنت مع عنتر وعاصم، علم عاصم أولًا وارتبك ليخفي الخبر ويقسط الفاجعة على صديقنا. كانت فاجعة، لكنها لم تكن كبيرة، ذلك أنه لا جثة لصدام، ولا قبر، ولا صورة. من لم تره مسجى، قد يعود. ورغم عشرة أيام من العزاء، مازال أصدقاء صدام يعيشون على بصيص من أمل العودة.. في إجازته الأولى، عاد عاصم من متارس المقاومة في المدينة، كنت معه حين تلقينا النبأ الأول: قتيل من المنطقة في المواجهات مع الحوثيين داخل مدينة تعز. في اليوم الذي عاد فيه عاصم بالضبط، استشهد مالك.. كان قد استشهد من قبله الكثير، لكن الحزن لم يكتسح البلاد قاطبة بنفس درجة الفاجعة الأولى التي تتلقفها قرية تشاهد جثمان ابنها مضرجا بالدم، كيف إذا كان ابنها يأسر قلوب الناس بما فيهم أولئك الذين يختلفون معه. حتى مالك، لم نر جثمانه، ولم نسر خلف جنازته إلى مقبرة القرية. الذين لم نرهم ولم نمش خلف نعوش جنائزهم، مازالوا أحياءً. نظن ونؤول لأنفسنا للتخفيف من أعباء الأسى. في 18 رمضان قبل سنتين، وصل عاصم إلى القرية مسجى.. في صبيحة ذلك اليوم اتصلوا بي: عاصم جريح. صعدت إلى القرية، الناس يتقاطرون من كل مكان، لعاصم أصحاب من أنحاء مختلفة، حتى أنه حدثني عن نائف الجماعي قبل أن أعرف أن نائف شاعر ومقاوم وسيكون شهيدًا بعد عاصم. أول مرة أرى صبيحة حية في رمضان، صبحاً تكتظ طرقاته بالناس. عاصم استشهد.. يا لهول الفاجعة. وهناك من سيحاول تهريب جثمانه إلينا. وسمعت وشوشات منتظري عاصم المسجى يقولون: حمله ماهر ليسعفه وأطلق القناص رصاصته على ماهر، وماهر جريح. كان عاصم قد حدثني كثيرًا عن ماهر ورجولته، شجاعته ورؤيته العسكرية الثاقبة بحكم خبرته التي اكتسبها في مشاركته بمعارك الجيش مع الإرهابيين. كنت أعرف، لو غادر واحد سيغادر الآخر. سيصل جثمان عاصم وسيصل جثمان ماهر بعد ثلاثة أيام. لأول مرة منذ اندلاع الحرب، سنرى جثامين ثقبتها الرصاص، جثامين تصل إلينا لتكرم بالدفن في مقبرة القرية. سيصمت الناس عن الحديث بالسياسة، الذين يتعاطفون مع المليشيا سيكبتون العطف، أصحاب المناكفات السياسية سيصومون عن الكلام، انطفأت النكايات وانتكأت جراح البلاد.