يعود بناء سد مأرب القديم كما تقول النقوش المسندية الحديثة إلى القرن الثامن قبل الميلاد وكان يروي قرابة مائة كيلو متر مربع كنتاج لحضارة متراكمة ومتواصلة لدولة سبأ العظيمة. وحكمت الملكة أروى بنت أحمد الصليحي اليمن لمدة أربعين سنة في القرن الحادي عشر للميلاد وامتد نفوذها خارج اليمن للإشراف على الدعوة الفاطمية في عمان والهند.
يشير هذا الإرث التاريخي إلى التراكم الحضاري الذي حدث للمجتمع اليمني بشكل متواصل منذ نحو ثلاثة آلاف سنة، وهو يضرب بجذوره في أعماق التاريخ ويطل براسه على التاريخ الحديث لليمن.
ولم يكن مستغربا أن يخرج الشارع بشكل لافت في فبراير 2011 ليطالب بإسقاط الفساد وعهد التوريث وحكم الأسرة ويظل في الشوارع لنحو سنتين وغير نظرة الإقليم والمجتمع الدولي نحو اليمن الذي حاول نظام المخلوع أن يصفه بالقاعدة والتخلف والإرهاب والأمية.
ولم يكن مفاجئاً أن المجتمع مع صدمة إسقاط عصابة "الحوثي والهاشميين" لمدينة صعدة ثم عمران وفاجعة مقتل اللواء حميد القشيبي وتهاوي عمران ومن بعدها وسقوط صنعاء وأجهزة الدولة أن يتحرك ليلملم نفسه من جديد ويرفع لواء المقاومة والتحدي في وجه النازيين الجدد.
لقد تشكل لواء المقاومة من مدينتين تحملان إرثاً ثقافياً وحضارياً عميقاً لا يمكن لهما أن تظلا مكتوفتي الأيدي: من تعز ظهرت بوادر الانفعال والغضب مع نزول طائرة محملة بأفراد من عصابة الحوثي إلى مطار تعز للسيطرة عليها، ومن مأرب تشكلت مطارح نخلا والسحيل حيث قرر الجميع وقف انهيار السد وما سيفرزه من خراب.
كانت الفئران الجديدة "عصابة الحوثي والهاشميين" مستعدة لقضم السد بما فيه، لكن الموروث الإجتماعي الرافض للسلالة والأسرة والتوريث وحكم الفرد قد تشبع من هذه الثقافة؛ فتشكلت نواة الجيش الوطني وكان للواء الركن عبد الرب الشدادي الفضل في ذلك مع زعماء قبائل مأرب بعد أن تحالفوا على إعادة كتابة التاريخ من أحفاد سبأ وحمير.
واليمن بموقعه الجغرافي الحتمي وإطلالته على جنوب الجزيرة العربية من الداخل وعلى المحيط الهندي والبحر الأحمر والبحر العربي جعلت منه موقعاً مهماً للطامحين في السيطرة والباحثين عن تأمين طرق التجارة الدولية وعلى رأسها مصدري النفط والغاز أو الدولة الباحثة عن تأمين هذه المواد.
ولا يستطيع اليمن أن يعيش منغلقاً على ذاته، ذلك أن اليمن السعيد أطلق عليه هذا الإسم في السابق بسبب تحوله إلى منطقة تجارية دولية تصل بين أفريقيا وآسيا وأوروبا واستطاع تصدير "البن والبخور واللبان" وكانت قيمتها التجارية كالغاز والبترول في العهد الحالي.
والتجربة الحزبية لمدة 27 سنة منذ عام 1990م مع دخول التعددية الحزبية والمشاركة الشعبية في الانتخابات (الرئاسية مرتين، البرلمانية: 3 مرات، المحليات: مرتين) والثقافة السياسية التي رافقت هذه الفترة تضرب بجذورها في الأوساط الشعبية.
والمتابع للوضع الراهن وتكتل "الهاشميين" مع شيخ قبيلتهم "عبد الملك الحوثي" ومحاولتهم عسكرة المجتمع في شمال اليمن والظهور بطريقة المحاضر والأستاذ والمعلم لإعادة منتج "بيت حميد الدين" والإمامة الجديدة والعكفة ومحاولة تكريس ثقافة دخيلة على المجتمع اليمني تقوم على أساس طائفي وعنصري بملامح "الزيدية السياسية" وتحريك الكل بالعصا والنار.
كل هذا الموروث الثقافي والسياسي يجعلنا نعيد قراءة المجتمع ونعتمد عليه بشكل رئيسي لإدارة التحول نحو اليمن الاتحادي بحيث نعيد توزيع القوى العسكرية والأمنية والاقتصادية وكذلك الاعتبار للحواضن التي تم تهميشها لعدة عقود كعدن وحضرموت والحديدة وتعز والبيضاء حتى لا نكرر الغلطة التاريخية عندما وضعنا كل البيض في صنعاء، فكان الالتهام السهل لكل أجهزة الدولة ومقدراتها ومفاتيحها.
وفي هذا الإطار؛ يخطئ التحالف العربي بقيادة الشقيقة الكبرى عند تجاهله لهذا الإرث، وتعامله مع اليمن بطريقة "الحديقة الخلفية" وتجريفه للقوى الاجتماعية السياسية الفاعلة وهو ما قد يكلفها ثمناً باهضاً لاستتباب الوضع وترتيبه مع وجود دولة كإيران تقف خلف عصابة "الحوثي" بكامل قوتها.
فخلال ثلاث سنوات مضت منذ مارس 2015 تحولت الأوضاع وجرت مياه كثيرة في اليمن على مستوى الإقليم والمجتمع الدولي، كانت اليمن نقطة أساسية فيه؛ ولا تزال نقطة مهمة في ترتيب المنطقة ومستقبل السعودية على الخصوص مرتبط بها.
المصالح دوماً هي من تجمع وتفرق أيضاً؛ وهي من تردم الفجوات حتى بين المتحاربين، لكن الغريب في الأمر أن تجد من يطلق النار على نفسه ويصر على زيادة الخصوم وخسارة الأصدقاء والحلفاء؛ ذاك ما لا يعقل سوى التسريع في عجلة الانهيار لمن يواصل هذه السياسة. * مقال خاص بالمصدر أونلاين