لم يتمكن المؤتمر الشعبي العام منذ نشأته من إقامة تحالف استراتيجي وثيق مع أيٍ من القوى السياسية على الساحة الوطنية، وفشل في تكوين معتقد سياسي أو فكري أو فلسفي يتكئ عليه، وأخفق في خلق انتماء لفئة من الناس أو جماعة أو حتى أيدلوجيا، وإذا كانت الأحزاب هي التطور النهائي للعصبيات كما يؤكد علماء الاجتماع السياسي فإن عصبية المؤتمر ظلت شاذة على الدوام، فعلى الرغم من ارتباطه بالرأسمالية كحزب حاكم إلا انه لم يكن مخلصاً للرأسمال الوطني وإن احتضن نسبة لا بأس بها من التجار والبرجوازيين، ولم يكن تنظيماً للبيروقراطية الإدارية للدولة وحاملاً لهمومها ومصالحها إذ فشلت هذه الفئة طيلة سنوات حكمه الطويلة أن تتحول إلى طبقة وسطى، ولم يكن معبراً أميناً عن مصالح الفقراء بالنظر لطبيعة تركيبته السلطوية، ولم يكن رافعة لتطلعات القبيلة النهائية ولا حاملاً لمشعل التمدن. وعلى الرغم من جاذبيته السياسية التي ظلّ محافظاً عليها ولا يزال، ومقدرته العالية في بلع الهويات الصغيرة التي تمثلها طبقتا «المشايخ» و«السادة» واستخدامهما في الحفاظ على الاستقرار النسبي للنظام من خلال بعث إحداهن مقابل إماتة الأخرى والعكس إلّا أنه فشل في هضمهما في نهاية المطاف، وأصيب بالعسر الشديد. فطبقتا (المشايخ/السادة) اللتان استطاع المنتسبون لهما منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي اختراق أسوار العزلة البيروقراطية للجمهورية الفتية وتقلدوا أرفع المناصب السياسية والعسكرية تمركزوا في قلب الثروة والنفوذ، الأمر الذي فتح شهيتهم للسلطة أكثر فأكثر، لينتهي بهم في خانة المعارضة أو التمرد، كما حدث مع «الشيخ» حميد الأحمر الذي لم يخفي رغبته في الوصول للسلطة و«السيد» حسين بدر الدين الحوثي وأخوه يحيى عضوي البرلمان عن قائمة الحزب.
وإذا كان البعد المادي حاضراً في وعي المؤتمر مشكّلاً مرجعاً حاكماً لسلوكياته، فإن البعد الروحي كان منقسماً على ذاته حد التناحر والاغتراب. فالحزب الذي قدّم نفسه متسامحاً مع الاختلافات المذهبية فشل في تحديث خطابه السياسي والديني، ولم يكلّف نفسه عناء تقديم تفسيرات حداثية أو عصرية للكثير من المسائل الفقهية التي كانت تقف حجراً عثرة في طريق تعزيز قوة مؤسسات الدولة مقابل انحسار سلطتي القبيلة والدين وبدا كأن المؤتمر يقف عائقاً أمام المؤتمر!
وبالانتقال إلى مرجعيات الحزب الحاكمة أو الناظمة لمواقفه وسلوكه نجد أن الحزب الذي امتلك السلطة والمال والقوة لم يستطع تكوين استراتيجية خاصة به للاستمرار في السلطة والحفاظ عليها، وظلّ أسير انفعالات «الزعيم» اللحظية وتقلبات مزاجه وأهوائه وشبقه للسلطة وتمنّعه عن التغيير، لذا فقد كان حزب التكتيكات الأول في البلد، وما بين تكتيك وتكتيك كانت هناك هوة تتسع به، وبمؤسسات الدولة والبلد إجمالاً.
لقد أخفق المؤتمر في صياغة سياسة خارجية له وللسلطة التي كان يمثلها تقوم على الندية والمصلحة الوطنية مع دول الجوار والعالم، وفشل أيضاً في إقامة تحالفات وثيقة مع قوى سياسية على الساحة الداخلية، إذ سرعان ما أطاح في صيف 94م بالتحالف الاستراتيجي الذي جمعه بشريكه في الوحدة الحزب الاشتراكي بعد ثلاث سنوات من الضغينة، ثم أطاح بشريكه في الحرب حزب التجمع اليمني للإصلاح. ثم تحالف مع جماعة الحوثيين (أعداء الأمس) ليتنصل عن ذلك التحالف محاولاً التحالف من جديد مع قوى سياسية داخل الشرعية من خلال الإعلان عن التمرد ومواجهة الحوثيين لينتهي الحال برئيسه مقتولا بأيد حلفائه وخصومه الجدد (الحوثيين).
وعلى امتداد شواطئ حكمه تقلب المؤتمر كالأمواج بين رمال الزيدية والسلفية والإخوان، ودس رأسه مؤخرا في زرقة التشيّع المدعوم إقليمياً عبر تحالف صدم أقرب المقربين من منتسبيه، متسبباً بانشطار الحزب الى نصفين، نصف مع الرئيس هادي أو قل «السلطة الانتقالية» ونصف مع صالح الذي حاول لعب دور المعارضة ثم انخرط بفاعلية في التمرد على الشرعية الدستورية أثناء اجتياح العاصمة في ال 21 من ديسمبر، ثم تقمّص دور الشريك في «سلطة الأمر الواقع»، ليجرب مؤخراً الانتفاضة أمام خصم أصولي لا يرحم.
لقد أدّى تحالفه مع الحوثيين لخسارة الكثير من أنصاره، وأفقده قواعده المتعاطفة، إذ كيف لحزب تشكّل في قلب الجمهورية واصبغ مفرداتها السياسية والثقافية على قاموسه اللغوي أن يقف في النقيض من ذلك؟ فالتحليل يقف عاجزاً عن وصف ذلك التموضع إن لم يتم الاستعانة بالمفردات المفاهيمية لعلم النفس المرضي ك«الفصام» أو «الثنائية القطبية».
وفيما ذهب البعض لتوقع إمكانية التئام نصفي المؤتمر (مؤتمر الشرعية/ مؤتمر الانقلاب) انقسم مؤتمر الانقلاب الى ثلاثة أقسام، مؤتمر المجاميع المسلحة المدعوم من الإمارات (وريث مؤسستي الحرس والأمن المركزي) بقيادة طارق، والمؤتمر المنسلخ كلياً عن هويته السياسية (مؤتمر الجماعة) والذي يقوده صادق أمين أبو رأس ويحيى الراعي ومن خلفهما الشيخ ياسر العواضي، ومؤتمر الجنرال محسن الذي حطّ رحاله في محافظة مأرب وفي العاصمة السعودية الرياض.
وفي ظل القراءة المتأنية لمسارات المؤتمر الانشطارية والانعزالية نجده يعيش أخطر مراحله التاريخية، إذ لم يعد يستطيع إعادة تنظيم نفسه وفق استيعاب المتغيرات الداخلية والخارجية بداخل كيان واحد اسمه «المؤتمر الشعبي العام» واكتساب عناصر وسمات جديدة تؤهله لخوض الغمار السياسي وتمدّه بمقومات البقاء، فيما أصاب الوهن قدرته على المناورة والتكتيك.
وإذا كان هذا هو حال المؤتمر؛ المؤتمر الذي لا يزال شريكاً صورياً لجماعة الحوثيين، والمؤتمر الواقف على رأس الشرعية الدستورية والحكومة، فكيف ستنتهي به المآلات بعد رحيل هادي عن السلطة بإجراء انتخابات أو مباغتة الموت له، أي بعد خروجه من السلطة نهائياً؟
إن أحد الخيارات المطروحة أمام القطاعات العريضة من المؤتمريين اليوم هي التدرُّب على النضال السياسي واكتساب سماته وخصائصه، تلك النافذة الوحيدة التي استطاع الخروج منها حزب التنظيم الوحدوي الناصري والحزب الاشتراكي اليمني وإن بفاعلية أقل، فهل سيستطيع أعضاء المؤتمر ومنتسبوه فعلها، أم أن المؤتمر سيؤول به الحال كزعيمه إلى ثلاجة الموتى؟