في القرية؛ إذا أرادت المرأة التعبير لزوجها عن لهفتها عليه أو شوقها له تكتفي بالقول: «شلّوك الجن»، وإذا أرادت أن تدلعه، تمط عبارة المحبة تلك بضحكة غنج خافتة، وتنصرف إلى كدها اليومي، ولا أتذكر امرأة من جيل أمي كانت تأتي على سيرة الحب أثناء ما كنت أكتب لهن الرسائل إلى أزواجهن المغتربين في السعودية، لقد كانت طريقتهن الأثيرة في التعبير عن عواطفهن ملخصة في جملة واحدة تحفظها جميع نساء القرية: «سؤالنا عنكم وعن أحوالكم، أما نحن ففي أتم الصحة وكمال العافية»، حتى لو كانت الرسالة عن المرض و«قلة المصروف وكثرة الدين». في السنوات الأخيرة تركت نساء المغتربين الاعتماد على الرسائل، ولجأن إلى الهواتف المتحركة "الجوال"، للتواصل مع أزواجهن، لكني أعتقد أن طريقة التعبير عن عواطفهن لم تتغير، ربما يقول الزوج في بداية المكالمة "كيف حالك يا مرة" فترد "نحمد الله"، ثم تفاصيل أخرى عن الأولاد والمصاريف والجيران وأخيراً "ما تشتيش شي يا مرة" فتختم: "مثلما قلنالك".
اختلفت الوسيلة، ولم تختلف العادة، والزوج الذي في الغربة والزوجة التي في القرية مظلومان على الدوام، حتى في التعبير عن عواطفهم، ذلك أن الحديث عن الحب ليس سوى "هبالة" عند البعض، وقلة أدب عند البعض الآخر، وإن حاولت إقناع أحدهما بتمرير كلمة "أحبك" عبر الهاتف لانفجر في وجهك ضاحكاً، وعذر البعض: "يا ابني قد شيبنا ومعادناش من حق هذا الهدار".
الجملة الأخيرة يرددها بعض المتزوجين وهم لم يتجاوزوا شهرهم الأول في الزواج، وكأنهم بعكس ما يجب، غادروا الحب في أول يوم من زواجهم، كأن الزوجة التي أصبحت داخل البيت بعقد شرعي تحولت إلى "مرة" ومجرد البوح لها بالمحبة سيجعلها "تدعس على ظهرك من اليوم الثاني".
التحذير من "الدعس على الظهر" سمعته أكثر من مرة، قيل لي قبل الزواج، وسمعته يقال لشباب بينهم وبين ليلة عرسهم يوم أو يومين، وبعضهم لشدة حرصه على العريس، وإرث الرجال في قريتنا يوصيه: "خليك رجال واكسر رقبتها"، كأنه متجه إلى معركة، ولو كان من عينة بعض من أعرفهم لسحق رأسها في ليلة الدخلة، انتصاراً لكلمته، والمعنى أن لا تسمع لها أبداً، وكان جاري محمد حسن ينصح كل شباب القرية: "لاتسمع لمرتك إلا إذا قالت لك قم صلي".
على مدى أجيال تقريباً وأغلب الناس ينظرون إلى العلاقة الزوجية على أنها بين "رجّال ومرة" وليس "حبيب وعاشقة"، يحدث ذلك دائماً سواء كان الحب متبادلاً أو معدوماً أو من طرف دون آخر، يعني لا يوجد بين الرجل وزوجته "لوعة وأشواق" وإن وجدت فإنها تذبل لأنها لا تظهر، والحب إن لم يعبر عنه يموت ويختنق.
عندما كانت قريباتي يجتمعن في أيام المناسبات بمنزل جدي، كنت أحاول جاداً ومخلصاً اقناعهن بالتعبير عن عواطفهن الإيجابية لأزواجهن وأن ذلك لا يستدعي منهن الخجل، وأجد صعوبة في ذلك، كان يبدو عليهن الاستغراب، وأحياناً الذهول والاستحياء: "أبصروا ما يقول"!، كان الحب عندهن ممنوع من التعبير عنه أو الحديث فيه، كان من نوع العيب الذي لا يصح أن ترتكبه المرأة.
من يقنع مثلاً جدتي رقية بأن تعبير المرأة عن حبها لزوجها لا علاقة له بالعيب إطلاقا، ولذلك ستظل تعلم بناتها وأبناءها أن المرأة لابد وأن تكون "ثقيلة ولا ترخي" حتى عند زوجها، والرجل إذا "دلع مرته طلعت فوق ظهره"، ولا أدري كيف يمكن أن نتوقع من امرأة ثقيلة ورجل قاسي حياة زوجية جميلة، مع ذلك تظل النصائح السابقة مسموعة عند الرجل والمرأة لأن الأخيرة تعتقد أنها بذلك لن تقع في العيب، ويعتقد الرجل أنه لن يسمع من يهينه بالقول أنه "يسمع مرته".
بدأت الحديث عن المرأة في القرية، لأني ابن القرية، وهناك رأيت وسمعت، ولا أظن الأمر يختلف كثيراً في المدينة، فثقافة العيب عند المرأة ورغبة الرجل في أن يكون "أبو زيد الهلالي" مع امرأته، تسيطر على أغلب أبناء المجتمع، ويغذيها هذا الجمود في العقليات التي تلقن المجتمع ما يجب وما لا يجب.
لا احد يستطيع أن يتحدث عن الحب بحرية، دون أن يغمز إليه بعض القبائل بأنه "راخي" ومش "رجال"، وسيجد المرأ صعوبة في إقناع صديقه بشراء وردة يهديها لزوجته وهو عائد إليها بعد جلسة مقيل أو غياب خارج المنزل، وإذا رغب أحدهم بمفاجأة زوجته بعشاء في مطعم، أو رحلة إلى خارج حدود قريته أو مدينته فإنه يلجأ إلى كتم ذلك والتستر عليه، لأنه سيجد من يضحك عليه، وأنه رجال من "آخر زمن".
هذه الأشياء نعرفها جميعاً، والقليل فقط من تجاوزها، لكن الأغلبية من الرجال لا تزال محافظة على تقاليدها القبيحة في الازدراء من الحب، وقد يقرأ البعض مثل هذا الكلام على أنه تشجيع للانحراف والفساد في الأرض، ربما. لأن علاقتنا بالحب سيئة جداً ونسيئ الظن بها على الدوام وكأن الحب فعل فاضح، ولا أحد يهتم بإنقاذه من هذه الصورة في بلد يضج بالخطب الدينية والمهرجانات السياسية، ولا تجد بين كل ذلك من يتحدث عن الحب كقيمة يمكن لها غفران كل الخطايا التي تقود البلد إلى الجحيم.. لا أظن القارئ سمع مرة واحدة رئيس الدولة أو أحد وزرائها أو سياسييها انفرج وجهه ذات خطاب وبدأ يتحدث عن زوجته بمحبة، وأنها ساعدته على تجاوز محنة، أو حل مشكلة.
أتحدث عن المرأة كزوجة فقط، وعن التعبير منها أو لها صراحة بالحب، فقط، أما المرأة ومعاناتها بشكل عام فهو حديث يطول ولا ينتهي، وللإنصاف فإن الرجل وزوجته يعانيان، مثل هذا البلد لا يساعد أحداً على أن يكون سعيداً، لكني أستطيع أن أضيف إلى ما سبق، وأتمنى أن ينتبه الزوج والزوجة إلى أن بإمكانهما التعبير لبعضهما عن الحب، وإعداد المفاجآت المفرحة، حتى وإن كانا فقيرين، ويمكن للمرأة التي تخجل أن تجد ألف طريقة في التعبير عن ذلك وكذلك الرجل.
أؤمن بقيمة الحب وضرورة الحديث عنه، ولو كان القارئ شهماً، وذهب إلى زوجته بكلمة "رطبة"، أو شجع أحد والديه على مفاجأة الآخر بهدية بسيطة أو كلمة حب دافئة، فسيكون رجلاً نبيلاً يستحق أن يشكر مني على الأقل. والأمل طبعاً على أن تغير الأمهات عاداتهن في نصح بناتهن قبل الزواج، والآباء أو الأصدقاء كذلك بالنسبة للشاب المقبل على الزواج، ولا داعي للحديث عن "الدعس فوق الظهر".
يجب أن نشجع على المحبة بين الأزواج، فهي في نهاية المطاف ستساعدنا كثيراً في حل مشكلاتنا، فمن يدري ربما يهدأ اليمنيون في المستقبل وترق طباعهم، ولا يجدون عذراً في الاستمرار في استخدام العنف حلاً وحيداً لمشكلاتهم، والرجل الذي يغادر منزله تعيساً وطافشاً، لا يمكنه أن يسعد كثيراً من يتوجه إليهم أو يلتقيهم في طريقه أبداً.
أراد رجل وهو على فراش الموت التعويض عن حرمان زوجته من الكلام المعسول، فنظر إليها ب«حنية» وهو يقول: عندما طردت من عملي كنتِ معي، وعندما مرضت وقفتِ إلى جنبي، ولما فلست كنتِ معي، والآن لا تزالين إلى جواري، ثم أمسكيدها بكل رقة وقال: مش عارف ليه حاسس إنك نحس من أول ما تزوجتك!