( إليه في عامه الثاني ... إلى أبي حيث يقيم الآن في عالم الخلود ) لم يتبقّ لك من أيامك الهرمة ، سوى هذا الوهن الذي يحاصرك من أكثر من اتجاه ، كعدو لا تفصله عن لحظة الهجوم سوى القليل من الوقت . أحاول مخاتلة الحزن والعجز متخففّا من كوني ولداً عاقاً ، أطل من نافذة مشرعة على الوهم والنهايات البائسة ، ليمنح والده رثاءً ، لم تكن سبعمائة وثلاثون يوماً كافيةً لكتابة مرثيةٍ لائقة برجلٍ ، أشعر اليوم أنه نجح في منْحي ما يمكّنني من مواجهة كل هذا الوهن . أتحدث عن أبي وبيقين من يدرك أنه لن يضيف شيئاً إلى سيرته ، سوى بعض الجمل العاجزة عن الالتصاق بتأريخه الإنساني المحض ، بعيداً عن كل ما يخدش بساطته كرعوي وفلاح بسيطٍ ، تمكن بنزاهة من العيش في دنيا كل ما فعلته تجاهه ، أنها أدارتْ له ظهرها وبطريقة لا يجيدها سوى قليلي الأصل وعديمي المروءة. أتحدث عن أبي كيتيمٍ شاخ في سن العاشرة من عمره ، بعد أن أسلمه والده للحظ ومتاعب دنيا ، علّمته بقسوة كيف ينقش سيرته كرجلٍ ، لم أجد أبي - ذات يوم - يتحدث عن سيرته وتضحياته ، وبيقين من يمنحني درساً ها أنا اليوم أقترب من فهمه وملامسته ، لأدرك القيمة الحقيقية لأن تعيش سعادة الآخرين وحبهم . لم يكن والدي ليدرك بعد رحيل والده ، ما الذي ينتظره ؟ وكيف سيتمكن من التغلب على رغبات طفل ، أحاله القدر إلى يتيمٍ ، شقّ طريقه في هذه الحياة كرَبّ أسرةٍ ، نجحَ في انتزاع الإعتراف بكونه رجلاً منضبطاً ومسؤولاً ، أظهر أداءاً جيداً بموازاة واجباته الثقيلة والقسرية . في العام 1954م وجد أبي نفسه وحيداً وأعزلاً في هذا العالم ، بعد أن ورثَ تركةً لا بأس بها من الوجع ودنيا لن تكترث لطفلٍ ، غادر قريته باتجاه مدينة تعز ، مخلفاً أمّه وأخوين يصغرانه بسنوات . فجأةً صار والدي أباً لأمه وأخويه ، وبات عليه الإلتزام بما يفرضه عليه إحساسه القسري بالرجولة المتقدمة ، لتكون تعز مفتتح رحلته وبدايةً - ربما لم تكن سهلةً - وهو يخوض - بإستماتةٍ - معركته الأولى لتحقيق حلمه البسيط ، والذي اخْتُزلَ - آنذاك - في توفير لقمة العيش لأمه وأخويه . أظهر والدي براعةً ما في عمله ، إذْ أتقن بسرعةٍ عملية صناعة الأكياس الورقية ، والتي كان يمارسها قبل وفاة جدي رحمهما الله ، ولطالما ذكرني الوالد علي ناجي سعيد النشمي ، بالإحترازات الأمنية التي كان يضربها جدي وعملية التكتم الشديد والسرية حيال الطريقة التي كان يتبعها والدي أثناء إنتاج الأكياس الورقية ، وكأن جدّي ضابط استخبارات ، لم يكن من السهل على أحدهم انتزاع أي إيضاحات منه ، وكلما سأله أحدهم : يا عم طارش هذا المعجون دقيق وماء ، اللي ابنك يستخدمه لتلصيق الأكياس...؟ ليجيبهم جدي وبأمل من يعتقد أنه سيصرفهم بعيداً : لا يا عيالي مش دقيق وماء ، هاذولا ( مضارب )يجيئين من عدن.. انكشف سر جدي وتعلم الكثيرون هذه المهنة ، لتكون تعز هي سوقهم الأول والكبير . بين باب موسى وحوض الأشراف عاش والدي سنواته الأولى كأصغر حرفيٍ ، لم يكن ليتذكر شيئاً سوى كلام والدته ، وهي تمسح على رأسه عندما غادر القرية ( قعْ رجال ، وأوبه تجازع السفهان ) . في مطعم ( أبو شنب ) كان يفتتح يومه وينهيه كنادلٍ ، مقابل وجبة مجانية كان يقدمها المطعم لكل العاملين فيه ، ليعود بعدها إلى عمله في صناعة الأكياس الورقية ، ومن ثم توزيع ما تم إنتاجه من تلك الأكياس ، وبدأب من لم تنل الإلتزامات من عزيمته ، وظلّ كما يقول رفاقه : هذا ولد احمر عين ) ، ولذا لم يكن من السهل عليه الإستسلام والتسليم لواقعه البائس ، كأيّ يمني وجد نفسه في مواجهة الحرمان والفاقة والعوز . كبر ذلك الطفل سريعاً ومعه كبُرتْ طموحاته وأحلامه ، والتي فرضتْ عليه تجربةً جديدةً ، خاضها والدي بنوايا صالحة دون أن يدرك أن ( العالم مليء بالأوغاد والسفلة ) . دخل والدي رحمه الله عالم التجارة ، واستطاع كقذيفةٍ من اختراق الجدار الإسمنتي الصلب لهذا العالم ، وتمكن من بناء علاقات مع كثير من قيادات الدولة آنذاك ودون اهتمامات أو توجهات سياسية معينة ، ما دفع ببعضهم إلى إشراك والدي في صفقة وصلتْ قيمتها آنذاك إلى ما يتجاوز ال 600000 $ ، تمكن الأمن الوطني حينذاك - وبتواطئ مع شركاء والدي - من مصادرة الصفقة بحجة ذهابها إلى الجبهة الوطنية المعارضة لنظام صالح آنذاك . لم تنل هذه الخسارة غير المحسوبة من طموح والدي رحمه الله ، وظل يمارس حياته بصلابة قروي ، لم يكن ليستسلم للهزيمة ، إذْ بقي يقاتل بأنفة وعزة كل المثبطات ، ونجح في مدَّنا بالنموذج اللائق برجلٍ ، أتقن التواجد في حياتنا جميعاً . ربما يتذكر أبناء القرية ذلك الرجل ، بمشاكساته وشغبه البريء والنقي ، ويكاد الكثير منهم يحتفظ بذكرى جيدة وجديرة بأن تتحول إلى مرويات لمواطن بسيطٍ ، لا زال أطفال الجيران يحتفظون بتقاسيم اليد التي كانت تمنحهم المصروف اليومي ، بألفة وحميميةٍ - ربما - ستظل منقوشة في ذاكرة أولئك الأطفال كلما عادوا صوب أمهاتهم قائلين ( أدي لي أبي محمد طارش عشرة ريال ). في مثل هذا اليوم رحل أبي تاركاً باب دكانه الموصد إلى الأبد ، والكثير من أبنائه الأطفال وهم يرددون بوجع متفاقم : مات أبونا محمد طارش ، فيما بقيت الحيوانات ( قطط - كلاب - أبقار - حمير .....) غير قادرة على الإفصاح عن حزنها ، واكتفتْ بالمغادرة لذلك المنزل الذي كان يمثل فيه والدي الملاذ الآمن واليد الحانية ، ودفء قلبٍ سالت على جدرانه ألوان الخلود ، كلوحةٍ إيمانية اختزلتْ الحياة كلها في هذه الجزئية ( في كلّ كبدٍ رطبةٍ أجر..)