في مقابلة له مع “عكاظ السعودية” -قبل أيام- أكد وزير الخارجية العماني على أن “فن المسافات” هي السياسة، وأن الواقعية والمرونة هي الحاكم للعلاقات الدولية، وبقدر تعدد وتشعب محاور النقاش؛ قدم الوزير بن علوي -تلميحاً لا تصريحاً – دروساً في الواقعية السياسية، وكرر نصيحة -بين سطور كل الإجابات تقريبا- مفادها أنَّ التأثير السياسي للقوى النافذة مرهون أساساً بالهامش السياسي الذي تمنحه تلك القوى لمجال تأثيرها ونفوذها. في المقابل .. يتحدث ساسة وكتاب ومغردين سعوديين عن ما يسمونه “طعنة عُمَانِيِة في ظهر الخليج”، بل ويذهب كثير منهم إلى وضع عُمَانَ بينَ خيارين : “السعودية أو إيران”، .. كل ذلك فيما لا زالت عُمَانْ مثقلة بذكريات الدعم السعودي والخليجي لحركات التمرد في الجبل الأخضر (شرق ووسط عمان) في الأربعينات والخمسينات، وفي ظفار (غرب عمان) في الستينات والسبعينات، آنذاك كانت إيران وحدها من ساعد عُمَانَ وتدخلت سياسياً وعسكرياً لحسم التمرد الذي أنهك مسقط لسنوات طويلة. في مقاله المنشور في “الشرق الأوسط السعودية” تَحَدَّث السياسي والكاتب السعودي “عبدالرحمن الراشد” عن حتمية التزام عُمَان الرؤية السعودية في حرب الأخيرة على اليمن، فيما لم يشر المقال إلى ما تتشاركه عمانواليمن ثقافياً واجتماعياً وأمنياً واقتصادياً، فضلاً عن شريطٍ حدودي ممتد برياً وبحرياً، وأمورٍ أخرى كثيرة تؤهل عُمَان للتصرف كراشد (دون الحاجة لوصي)، خصوصاً تجاه قضية حيوية ومصيرية تجعل من عُمَانْ أقدر على فهم واستيعاب الأزمة اليمنية، وأكثر نضجا في تحديد طبيعة واتجاه الموقف السياسي، دون الحاجة لإملاءاتٍ خارجية. أسهمت كثير من القوى الدولية والإقليمية في تسهيل اندفاع السعودية نحو المستنقع اليمني، ومَثَّلَ قرارُ مجلس الأمن الدولي “2216” حصان طروادة للسعوديين الذين انساقوا بأوراقهم نحو الحرب، يحفزهم لذلك مجموعة من المُشَهِّيات الإستخبارية واللوجستية والإعلامية، بل وحتى الإنخراط المباشر في العمليات الحربية، الكثير ممن يوصفون “حلفاء السعودية” في الإقليم يتطلعون لدور اقليمي على أنقاض الدور السعودي، فضلا عن خلافات سياسية ومشكلات حدودية تغذي هذه التطلعات وتحركها، ويلتقي مع هؤلاء – في رغبة تعميق الورطة السعودية – خصوم ومنافسو السعودية في الإقليم (تركياوإيران)، وبالطبع : ليست إسرائيل عن ذلك ببعيد. تعي عُمَانْ – التي تجرم في تشريعاتها المحلية أي حديث عن الطائفية والمذهبية – مخاطر الصراع القائم في منطقة هشة، وفيما يتم إحياء كافة النزعات العرقية والطائفية والمذهبية سياسيا وإعلاميا، تزيد حدة المناورات العسكرية براً وبحراً وجواً، ويشتد سباق التسلح بين قوى إقليمية تغذي صراعات متوحشة تفتك بالكثير من دول وشعوب المنطقة، فيما يعكف الكبار على إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط عبر بوابة محاربة داعش والتنظيمات الإرهابية. في سباق قوى النفوذ الإقليمي، يستثمر الأتراك والإيرانيون في هشاشة المؤسسات الحاكمة العربية، وفي غياب الهوية الجمعية لشعوب المنطقة، فيما يشهر السعوديون خطاباً مضمونه “من ليس معنا فهو ضدنا”، ويعتقد متابعون كُثُر أنَّ السعوديين ينهمكون في أخطاء مرتفعة الكلفة، ويجتهدون فيما قد يضر بمصالحهم، فيما تتربص قواعد اللعبة الدولية بحاضر ومستقبل الدولة والمجتمع السعودي، ليجد أصدقاء السعودية الحقيقون أنفسهم بين “الوقوف مع السعودية ضدها” أو “الوقوف ضد السعودية معها”، في ظل غياب حسابات المنطق، وحضور الانفعال والإندفاع في القرار السعودي.
منذ نحو عامين .. انقلبت السعودية على تاريخ طويل من الحكمة السياسية، والدهاء الهادئ، كان السعوديون -فيما سبق- ينصتون بهدوء (حتى لأشد مناوئيهم) ويتأملون بعمقٍ في كل ما يدور حولهم، ويديرون بصمتٍ منطقة ساخنة شديدة التعقيد، اليوم وعلى خلاف ذلك؛ لم يعد السعوديون يستمعون لغير انفعالاتهم، وبات الصوتُ المرتفعُ سمةً أبرز للمشهد السياسي السعودي، المئات من محدوي الخبرة والتجربة السعوديين صاروا يظهرون على شاشات التلفاز، يخوضون في قضايا السياسية، ويُنَظِّرُونَ في مسائل الحروب، حتى إنه بات من الممكن أن يذهب موظفين سعوديين إلى تل أبيب، معلنين أنفسهم صناعاً للقرار السعودي وراسمين لسياسات المملكة. تقتضي حسابات الجغرافيا، وضرورات الأمن والساسية، أن تسعى دول الخليج (بما فيها السعودية وعمان) نحو علاقات إيجابية ولغة مصالح مع المحيط الإقليمي (بما فيه إيرانوتركيا)، في ظل الحساسية الجيوسياسية والأمنية للخليج الذي تعتمد اقتصاديات دوله على عوائد صادرات المنتجات النفطية، وبالتالي فإن ضمان انسيابية تدفق النفط إلى أسواق العالم يستدعي أكبر قدر من الاستقرار والتفاهم في منطقة لا يزيد عن درجة حرارة الجو فيها إلا درجة حرارة الاستقطاب والتعبئة. على نحو تنافسي .. تملك عُمَانْ من الرصيد السياسي والتاريخي، ومن الموقع الجغرافي ما يؤهلها لأن تكون “شعرة معاوية” التي يحتاجها اليوم الخليجيون (السعوديون تحديدا)، قد لا تكون عُمَان مؤهلة للذوبان الثقافي والسياسي في الجسد الخليجي، ما يعني حتمية المحافظة على العلاقات الخليجية مع عُمَان، على قاعدة تبادل الأدوار والمنافع، وفق هامش مناورة يرعى المصالح الخليجية ويحترم المصالح والقيم السياسية والاجتماعية العمانية، فعُمَانُ التي تملك مفاتيح “هُرْمُزْ” تملك مفاتيح حَلِّ العديد من أزمات المنطقة.