د.عمر عبدالعزيز على مدى تواريخ البشرية المعروفة في كتب التدوين، كانت الجغرافيا المكانية العالمية ثابتة، فيما كانت التحولات العاصفة في تلك الجغرافيا مقرونة بحركة البشر واستتباعاتها في تنوع لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأديانهم، وكانت تلك الانزياحات البشرية الكبيرة محكومة بالضرورات الموضوعية ذات الطابع المادي الحياتي الصرف، وما استتبع ذلك من خلاسيات عرقية وثقافية، كما كانت الحال في المناطق الزراعية الخصبة، ومناطق الاصطياد والموانئ الساحلية، وفي الوديان النهرية والمطرية الممتدة على مدى ازدهار الحياة وتعدد مكوناتها الثقافية الوجودية. تلك الانزياحات البشرية المحكومة بعامل الضرورة اقترنت بعد حين بالغلبة والمغالبة، وقد استخدمت العصبية القبائلية كرافعة في تلك الانزياحات المقرونة بالعنف والقتل، كما فعل (النورديون) الأوروبيون من قبائل الفيكونج الأنجلوسكسون، وكما جرت العادة في كامل الجغرافيا البشرية المتغيرة في مختلف أرجاء العالم. بعد حين اكتشف جهابذة (المالتوسية) التاريخية وسائل فعالة لتبرير العنف والإبادة، وكان الدين السياسي أداة فعالة، حيث اقترن الكتاب المقدس بالسلاح، وأصبحت الاجتياحات مبررة بالإرشاد وإعادة الضالين إلى سواء السبيل. بهذا المنطق تم تبرير الإبادات التاريخية لسلسلة من الأمم والأعراق، وكانت ذروتها الأكثر تراجيدية وبؤساً ما حدث في أمريكا الوسطى للهنود الحمر، وما استتبع ذلك من استقدام منهجي للزنوج الإفريقيين، وإحلال ضمني لسكان أستراليا الأصليين. مثل هذه الحقائق والوقائع لم تنفرد بها القارة الأمريكية، لكنها بدت أكثر (فولكلورية) في متاهاتها وأثرها المباشر في سلسلة من العادات والتقاليد وأنماط الحياة. لقد أفضت هذه المنهجية التفريغية إلى ثقافة العولمة المتأمركة بثقافة الشحن والتفريغ، وقد كان الفنان العربي المصري الكبير نور الشريف خير من شخص هذه الظاهرة في ثقافة العولمة المتأمركة والتي تبعد الإنسان عن ذاكرته عبر منهج الشحن والتفريغ اليوميين، حيث أشار بالبنان لمنهج الإعلام والفنون الأكثر وحشية في رأسمالية الألفية الجديدة، ومحتواها اللا معنى.. اللا انتماء.. اللا ديمومة.. اللا اعتقاد. بهذا يتحول الدماغ البشري إلى (هارد ديسك) يشحن يومياً ثم يفرغ في اليوم التالي، وعلى ذات الدرب يمكن استعادة مثل هذه المنهجية فيما حدث من تفريغ منهجي لأمريكا الوسطى عبر الإبادة الفيزيائية لسكانها، وما حدث في أستراليا وبعض جزر آسيا البعيدة، وما كان مخططاً له في جنوب إفريقيا في ظل النظام العنصري، وما يحدث عملياً من تفريغ منهجي للصومال من خلال تغذية الحرب الأهلية، حيث هاجر تسعة ملايين صومالي من أصل عشرة ملايين.. ما يؤهل هذا البلد لإحلال بشري عولمي تنتظم عناصر حياته بالقوانين الرأسمالية العابرة للجغرافيا والتاريخ والهوية. البلدان العربية المسحوقة بالحروب الداخلية مؤهلة لذات السيناريو، وفي المنظور المباشر لمنهجية التفريغ اليمن وسوريا وليبيا والعراق. وفي الدرب آخرون. الولاياتالمتحدة هي النموذج الذي يقدمه عرابو الحكومة العالمية والثقافة الموحدة الكونية، والدليل القاطع المانع على ما يذهبون إليه يتمثل في ذلك النموذج المسمى (الحلم الأمريكي).. النابع أساساً وأصلاً من متوالية الشحن والتفريغ التاريخيين. الحلم الأمريكي يوازي الحلم الألفي الجديد للبشرية المنخلعة من ثقافة التاريخ والجغرافيا.. بل من المكان والزمان، فتأمل عزيزي القارئ.