في أول يوم من العام الجديد ، تذكرت تفائلي بمستقبل أفضل لوطننا الحبيب في بداية كل عام جديد ، بل تذكرت كيف عايشت الرحيل المر قبل سنوات من مدينتي المفضلة ( أم اليمن) ، و هجرت الأسرة والبيت و الحارة والجامعة ، مكتفيا بحمل ما كنز بقلبي من قيم ومبادئ، والشوق يختلج صدري، والفرحة مرتسمة على محياي ، وصدى أهازيجها يتردد أثيره على مسامعي ، وعيناي متلهفة لرؤية الأحبة ، من سكنوا بقلبي ، وتخلدت صورهم في ذاكرتي ، ومزجت أسمائهم بشعيرات دمي ، وحفرت ذكرياتهم ومعارفهم في عمق وجداني ، و أستوطنوا روح روحي المفعمة بأرتال الحب و لوعة الحنين لأهل المبادئ وأصحاب القيم النيرة ، من أشعلوا شموعا متوهجة أضاءت لنا دروب الحياة وسبل السلوك فيها ، من تخلد ذكرياتهم في لوحة جمالية مستنيرة أرتسمت في عقلنا الواعي و الباطن ، نعيش معها في خلواتنا نستمد منها إلهاما ينعش أرواحنا ليستقر بها في عالم المثالية. تخللت وجدانيتنا مشاعر جياشة ، يلازمها فرحة غامرة لملتقى قريب وموعد هبوط على أطلال ، شدني الشوق لمعانقة من أرتحلوا إليها ، و الوقفة معهم على تعرجات كثبانها ، لنتدارس معاهم ذكرى حياة عشناها معاً ، لنتذاكر معاهم التنقيب عن معادن القيم التي غرسوها وأرتوينا بها ، لنعيش معاهم برهة من زمن نحلق في فضاء رحب نستدرك فيه بعض تقصيراتنا. فما أن وصلنا للفاصل الحدودي بين بيئتان مختلفتان في التجانس والحاكمية ، إلا و لامسنا تحول وجداني غير الشعور و اللاشعور في لحظة واحدة ، تحول عكس مفهوم العولمة ، الذي يتجسد في قوة الإرتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية ، و تبادل الثقافة والمعلومات والأشخاص والأموال والسياسة ، دون إعتداد يذكر للحدود السياسية بين الأوطان والمجتمعات والأمم ، إلى مفهوم روبرت كابلان ،كبير محللي الجغرافيا السياسية في مركز استراتفور في كتابة إنتقام الجغرافيا ماذا ستخبرنا الخرائط المقبلة ، وتوقعاته عن مستقبل الربيع العربي في اليمن ، ومخطط تجزئة الوطن والهوية . تحول بعث من جديد قوة الإحياء للجيوبوليتك ، و أعاد للمخيلة الجيوبوليتكية ، قوة الدولة والتطور الحيوي لراتزل ، و قلب الأرض لماكندر ، والقوة البحرية لماهان ، و القوة الجوية لسفرسكي ، والهارتلاند لسبايكمان ، والحافة الأوراسية و الساحات الجيوبوليتيكية لزبغنيو برجنسكي في كتابة رقعة الشطرنج ، والهيمنة الأمريكية ، وصدام الحضارات لصاموئيل هنتنغتون ، والتي تعبر عن الخطوط الجيوستراتيجية بعد الحرب الباردة ، و الفوضى الخلاقة حسب كالينوكس ، و الجيوبوليتك الروسية للأكسندر كوهين . كل هذه النظريات تجسدت في مخيلتي في صورة واقعية ، يعانيها الشعب اليمني ، و تطبق أبجدياتها عصابة مارقة ، أنقلبت على الدولة كياناً و إنساناً ، أنسلخت من الجسد الحضاري لسباء وحمير ، محاولة إقتلاع هوية العرب الأصيلة من موطنها السامي ، و التنكر لعمقها الحضاري و الثقافي ، وتغيير التراث والموروث ، وتشويه مخطوطة أمجادنا الفاتحين. لتطبق عكسياً نظرية العمق الإستراتيجي لأوغلو. أشعلت نيران فارس لتكتسي بثوب الإمامة البائدة ، وهتفت بشعار الخميني لتسلم الحافة الأوراسية للجنرال الأمريكي برجنسكي ، تثأر للحسين بالتنكيل لأصل العرب ، و تدمير موطنها الأصلي ، أهدت التاريخ للمحتل الإسرائيلي ، ووهبت الجغرافيا للمستثمر الفارسي ، أنتصرت للقرأن بتجفيف منابعه ، و تفجير مدارسه ، ومنع حلقاته المسجدية ، و إختطاف حفاظة وإيداعهم المعتقلات، هذه هي مسيرة القرأن التي لا يوجد فيهم حافظ واحد لكتاب الله. فلما أظلتنا سماء الحرية و شاهدنا أطلال الأقيال والمكارب ، وجدنا الحضارة متجذرة في الإنسان متوطنة بوادي سباء ، تحكي ترجمة كاملة للنقوش المسمارية بمعبد أوام و معبد بران ، وقلعة براقش . وجدنا الدولة وعرفنا المواطنة ، على ضفاف مأثر كرب آل وتر تعاد الأمجاد ، و من وراء الكثبان الزاحفة على معبد الشمس يتجلى تاريخ الحاضر مشرقاً في أنصع صفحاته ، وجدت الهوية الوطنية متجذرة في العقل الجمعي للمجتمع ، وقلوبهم تفيض حباً للوطن الغالي ، وهبوه جماجمهم ، ومن أجله يسكبون دمائهم ويفدونه بأفئدتهم ومقلهم ، أقتسموا وإياه أعضائهم ، فوهبوه جزء كبير منها أختلطت بحصبائه وترابه الطاهرة ، وأكتفوا بأعضائهم الصناعية ليتكئوا عليها في صناعة أمجاد بناء الدولة ، والكثير منهم عادوا ليوهبوا ما تبقى من أعضائهم لصناعة النصر ، ورفع علم الوطن في كل قمة سامقة لترفرف عزيزاً يا علم. لا تكفي المجلدات لتخليد تضحياتهم وبطولاتهم ، عبروا عن وطنيتهم بالنقوش المضاهية للنقوش اليمنية القديمة ، لم تكتب بخط المسند ، بل كتبت بدمائهم المنقوشة في قمم الجبال الشاهقة ، ونحتت على الكتل الصخرية الكبيرة ، و سالت في أعماق الأودية والمنعرجات ، وجدت تاريخاً صامتاً يمشي على الأرض ويتخلد فيها. وجدت جنوداً مرابطون في الجبهات كالجبال ثباتا ً، وكالسيول عند الزحف ، لا ينتظرون المرتبات ولا يأبهون لها. همهم الوحيد هو الوطن، نسأل الله أن يحفظ وطننا من التمزق والتشرذم حسب الأهواء الإقليمية والدولية وأن يكون عام النصر لوطننا الغالي.