ليست العبرة في الكاتب تنميق كتابته، ولا في الخطيب رنين خطابته، ولا في المُحاور لطيف مجاملاته ولا بريق ابتساماته.. العبرة في كل ذلك هي في من يثبت على مبدأ واحد من البداية إلى النهاية حتى لو بقي عليه وحده. والعبرة في من يأنف أن يخلط بين المبدأ والمصلحة فيرفض أن يجعل من الشعارات العامة وقوداً لمصلحته الخاصة. والعبرة في من يصارح بالحقيقة ويتقبل في سبيلها خسارة المال وخسارة الجاه وخسارة المركز وخسارة الأصدقاء والمحبين وخسارة الجماهير المغرر بها من قِبَلِ دوائر الكذب المنظم، ويصمد في موقفه على كلمته حتى تتحطم على صخرة عناده الساخر سيول الأباطيل وطبول الأراجيف والمرجفين. هناك فرقٌ وفرقٌ كبير وبعيد بين من ينتقد المسئولين والحكام وهو بعيد عنهم لا يعرفهم ولا يعرفونه وأغلب هذا الصنف من الناس إذا أتيحت له فرصة التقرب والتعارف انقلب إلى مطبل ثم إلى طبلٍ لا ينقرون على جلده إلا أصدر صوتاً بمدحهم.. وبين من ينقد أخطاء أولئك الحكام والمسئولين وهو يعرفهم وهم يعرفونه ولو شاء لكان قادراً على الوصول إليهم ويكون صديقا منتفعا من معرفتهم وقربهم ومع ذلك يرفض صداقة المصلحة المتاحة لأن المبدأ والشيم والقيم في داخله تشكل قمة عالية لا يسمح لنفسه بالنزول إلى خداعهم وخداع الناس بهم. هناك فرقٌ بين من يرفضون المصلحة وبين من ترفضهم المصلحة ولو هي طاوعتهم وقبلت بهم لهرعوا إليها مهرولين. هذا الفريق الثاني هم الذين ابتليت أمتنا بهم وهم أغلبية من تكتظ بهم ساحات السياسة والثقافة والخطابة والإعلام. أما من يرفضون المصلحة فهم قلة قليلة نادرة في التاريخ وبالذات في زماننا هذا زمن التسطيح والتمييع والغثائية والغثيان. هذه هي المعايير الحقيقية للكفاح الصادق مع القضية والناس والأديان والأوطان.. وهذه هي الأخلاق والقيم والشمائل النبيلة الأصيلة، وليست المجاملات وتبادل البسمات الصفراء والإطراء مقابل الإطراء وما إلى ذلك من طبقات الزيف والتملق والتصنع والرياء حتى ليكاد الواحد منهم أن يعرض نفسه كما يعرض السمسار بضاعته أو كما كانت تعرض الجواري في سوق الرقيق. 30 مايو 2019