(1) وكأني بأحدهم ينفث دخان سيجارته، ويمضي في كتابة الخطاب، ذلك الخطاب العظيم الذي سيلقيه الرئيس على الشعب في ذكرى ثورته الجريحة، يحاول جاهدا أن يجمع شتات اللغة، فاللغة أيضا تم نهبها من كل لسان عاهدت نفسها أن تقول الحق ولا تألوا في ذلك جهدا . في ثنايا الخطاب، يجد نفسه مجبرا على استنشاق جرعة من الهواء النقي ويجد جرعة الهواء مخفضّة أيضا، ولا ينهار جسده . بينما تأخذه انفعالاته يكتب الرجل في إحدى حواشي الورقة " وإننيّ لأتَساءلُ إذا كَانت مكافَحةُ الفسادِ وبناءُ الدولةِ تتّمُ بنهبِ البيوتِ والمعسكراتِ ومؤسساتِ الدولةِ فَكيفَ يمُكِنُ أنَّ يكونَ الفسادُ والتخَريبُ؟ وهل من يريدُ بنِاءَ الدولةِ المدنيةِ الحديثةِ أن ينتَهكَ حرماتِ البيوتِ وأنّ يُهاجمَ مؤسساتِ الدولةِ بغيةَ نهبِها وإضعافِ علاقتِها وصلتِها بالشعب؟". كان على أمل أن يجيب الرئيس، ولكن السؤال بقيَ محتارا وهو يتدلى من شفة " المذيع " ويُسحق تحت أقدام الرجال العائدون من جنازة للتو . (2) منذ ثلاث وعشرين سنة، هي قوام عمري لم أحصل على تهنئة واحدة بمناسبة أعياد الثورة وأعياد الوطن المختلفة، كنت أسأل نفسي ماذا لو وجدت نفسي ذات يوم احتفل وحيدا بعيد ميلادي؟؟ سيبدو ذلك حزينا جدا، ربما أغفل عن الشموع فتلتهم النار الكثير مما أحب، أو الذي كنت أحب ولم يعد يمثل بالنسبة لي شيئا..! سألت ذات يوم أستاذاً لي : لماذا لا نتبادل التهاني في عيد الثورة كما نفعل في عيد الفطر؟ كان سؤالاً بريئا يومها، ولكنه اليوم يبدو خبيثا إلى حدٍ ما ...! لم يتمكّن يومها الأستاذ من توصيل الإجابة بشكل يُرضي فضول الصبي كثير الأسئلة والذي كنته، فاكتفى بالقول : ومن قال بأننا لا نتبادل التهاني ؟! كانت تلك الإجابة سوطا يجلد أية محاولة لابتكار سؤال جديد ... ولكنه باغتني - بعد ذلك - : هل ترى العافية - يا بنيّ - ؟ - كلا ..! - هل تحضر الطابور المدرسي كل صباح ؟ - نعم، أفعل ...!! - إذن فأنت تسمع المقولة الشهيرة " الصحةُ تاج على رؤوس الأصحاء,,, لا يراه إلا المرضى " . انتهى الحوار هنا، وذهب الأستاذ لا يلوي على شيء، لو كنت يومها قد قرأت كثيرا لكنت ناديته تمهّل يا" سقراط "، ولَكنت أدركت مالذي يعنيه ... وصلتني اليوم رسائل تهنئة عديدة بعيد الثورة، تلقّيتها ببرود شديد، وذهبت أفتش في ذاكرتي عن صورة تذكارية قديمة لطالبٍ فضولي، وأستاذ يلبس فانيلة بيضاء وإزارا ويحمل بين ضلوعه شيئا يسمى " الضمير " . آه نسيت أن أخبركم أني كتبت في خضم جوابٍ لإحدى رسائل التهنئة تلك مقولة أوحت بها نفسي ذات نهار :" لا تتذكر الأرملةُ ليلة زفافها، بقدر تذكّرها لليلة باتت فيها أرملة " ! ملاحظة أخرى لم أخبر بها الأستاذ وسأخبركم بها الآن فقط، بإمكانكم اعتباره سرا- إن شئتم - شيء آخر لم أفهمه مذ كنت أقف في طابور المدرسة وأستمع إلى الإذاعة المدرسية إلا اليوم ، كان بيت شعر يبدو شبيها ل" سيذكرني قومي إذا جد جدهم ...وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر " !! (3) أرهقتني كل هذه الأحداث، منذ يومين وأنا أبدو كمجنون، نبشت مكتبتي الصغيرة، حاولت أن أبتعد قليلا عن كل هذه الأخبار التي تخترق أذني كما كانت تفعل البعوضة بالنمرود. رحت أقلّب الصفحات أقرأ من كل كتاب بضع صفحات وأرمي بكلما قرأت ليكون وقودا لشرودٍ يستبد بي، وقعت عيناي على كتاب " اليمن الجمهوري" للبردّوني، لم التفت إليه، وحضرني على الفور بيت شعره " فظيع جهل مايجري .. وأفظع منه أن تدري " لست بصدد القوافي اليوم، أريد خلاصا من هذه الكآبة، الشعر يزيد الكآبة بقلبي. اتصل لي صديق قديم، بدا مرتبكا قال: سقط " محسن "، - فليذهب إلى الجحيم. أغلقَ السماعة في وجهي، إنه عالَمٌ غريب، للحظة أحسستُ بأن الغرابة في روحي أنا. رأيتُ فيلما منذ ايام عن الأشباح القادمة من المرايا، أوقفني هذا عن التحديق إلى المرآة رغبةً في سبر كُنه كل هذه الغرابة الساكنة روحي، أدركت بأن الخوف هو الذي يسكنني لا الغرابة، أرغب في الهروب أحيانا من نفسي إلى نفسي أيضا، لأنها ببساطة تبعث الهواجس المتشائمة دائما، على الرغم بأنها قد تكون غير موجودة. نصحني أحدهم قائلا:" أقلع عن الاستماع لها، كن قويا"، قررت أن أفعل، طويت أذناي، وأغلقت منافذ قلبي، هجرني النومُ، وباغتتني الكوابيس، كنت مذهولا، حيث أقابل أبطال الكوابيس وانا لم أتذوق النوم بعد، حملقتُ فيهم، تفحصت ملامحهم، لم أجد بوناً يُذكر. أدركت كم هي المأساة عميقة، وكم أنا بحاجة إلى طبيب نفسي ليُفسِّر لي كل هذه التناقضات التي أعيشها .. كانت أمي تقول كل صباح بأن الخير حين يُقبِل يُقبِلُ وحيدا، لا أثر له، فإن أدركت ضجة فَتلفّتْ بعيدا عنها قد تجد الخيرَ مستلقيا ينظر بحسرة إلى ضجة " ظل الحمار ". لذا لملمتُ ذاتي وقررت أن أسامر السهر، فلا تضير الغريب غرابة أخرى، وأن أبدو كئيبا حتى أجدُ برهانا ينفي عني ذلك، كأن أرى النارَ حول صنعاء تستحيل بردا وسلاما ! : فيسبوك