نجحت فرنسا في تأمين أكبر مسيرة مليونية شهدتها في تاريخها، ضد الإرهاب، ونجحت أيضا في تحويل حادثة شارلي إيبدو إلى 11 سبتمبر فرنسي، فيما يعيش المسلمون هناك أسوأ أيامهم، بسبب ما ارتكبه الشقيقان كواشي واميدي كوليبالي. أسئلة عدة تفرض نفسها عن مستقبل المسلمين والاسلام في فرنسا؟ وعن أسباب استهداف شارلي ايبدو دون غيرها؟ولم تجددت المواجهة بين فرنسا والارهاب؟ بدايات الصحيفة الساخرة
تصدرت شارلي إيبدو، التي لا تتجاوز مبيعاتها أسبوعيا بضعة عشرة الاف من النسخ، بين عشية وضحاها، أخبار وكالات الانباء، بعد أن قضت مجموعة ارهابية على 12 شخصا داخلها، من بينهم أربعة رسامين كاريكاتيريين ومصحح مسلم ينحدر من أصول جزائرية.
أصبحت الصحيفة تواجه تهديدات باستمرار منذ نشرها رسومات مسيئة للرسول محمد (ص) عام 2006، ما دفع السلطات الامنية إلى تعزيز حمايتها منذ 2011.
سليلة مجموعة من المنشورات
تأسست شارلي إيبدو عام 1970، وهي سليلة مجموعة من المنشورات أطلقت عام 1960 وتحمل الفكر ذاته. ففي 1960 أطلق جورج بارنييه الملقب بالبروفيسور شورون، وفرانسوا كافانا صحيفة «هارا كيري» وجمعا حولهما فريقا يضم كلا من فرانسيس بلانش وتوبور وفريد وريزر وكابو وجيبي.
تم منع الجريدة من الصدور عدة مرات لاسيما عام 1961 ثم 1966، لكنها كانت تعاود الصدور. وعام 1969 ظهرت صحيفة شهرية بعنوان شارلي، نسبة الى شارلي براون أحد شخصيات السلسلة التلفزيونية الفكاهية «بينو»، تتضمن رسومات اميركية وفرنسية وإيطالية.
في العام ذاته اجتمع الفريق حول كافانا مجددا لاطلاق اسبوعية «هارا كيري ايبدو»، وقبل عشرة أيام من وفاة الجنرال شارل ديغول عام 1970، شب حريق في ملهى ليلي أودى بحياة 146 شخصا، فعنونت على صفحتها الأولى: حفلة موسيقية مأساوية في كولومبي، والقتيل واحد، فأوقف صدورها ريمون مارسولان وزير الداخلية حينها، غير ان الطاقم استغل هذا المنع وقرر تغيير عنوان الصحيفة لتصبح «شارلي ايبدو». ورغم الظهور الجديد عام 1970 فانها توقفت عن الصدور عام 1981 بسبب تراجع متابعتها، لتعاود الصدور في يوليو 1991بعد استقالة فيليب فال وكابو من اسبوعية «غروس برتا»، وهكذا التحق ايضا جيبي ورينوبفال وكابو وأسسا ايضا شركة ذات أسهم، وأصبحوا ملاك 80 في المئة من الجريدة، ما منحهم استقلالية كاملة، حيث كان فيليب فال يدير التحرير وجيبي المدير الفني في هذه الجريدة، التي اصبحت اقرب الى اليسار وتنشر ما يثير الجدل.
الرسوم المسيئة للرسول
أثارت الرسومات المسيئة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- التي نشرتها عام 2006، اكبر جدل في تاريخ الصحيفة، التي اعادت ايضا مجموعة رسومات الصحيفة الدانمركية جيلاندز بوستن التي خلفت احتجاجات في عدة دول عربية.
انذاك طلبت المنظمات الإسلامية الفرنسية منع العدد، لكن السلطات لم تستجب، وواجهت الصحيفة أيضا اليمين المتطرف الكاثوليكي الذي خسر المعركة قضائيا. كانت المواجهات القضائية والمنع ومحاولات المنع، جزءا من الحياة اليومية لشارلي، غير ان تاريخ 2 نوفمبر 2011 كان لا ينسى ايضا، اذ صدرت الصحيفة باسم «الشريعة إيبدو»، ونشرت رسما مسيئا للرسول، احتفالا بفوز حزب النهضة الإسلامي في تونس.
تسرب خبر المانشيت قبل صدور الجريدة، فتعرضت لاعتداء، واحترق مقرها في تلك الليلة بعد ان القى مجهولون «مولوتوف» عليه، فيما تمت قرصنة الموقع الالكتروني.
اليهود خط أحمر
على مدى سنوات استثمرت شارلي ايبدو رسوماتها للاستهزاء والسخرية من المسلمين والمسيحيين، وهاجمت سياسيين من اليسار اليمين، رغم أنها محسوبة على اليسار، غير انها طردت الرسام سيني عام 2008 بسبب رسم كاريكاتيري وعمود تحدث فيه عن نية جان ساركوزي نجل الرئيس نيكولا ساركوزي انذاك، اعتناق اليهودية للارتباط بخطيبته. واعتبرت هيئة تحرير شارلي إيبدو الرسم والعمود معاديين للسامية، غير أن محكمة باريس قضت بأن تدفع الصحيفة 90 الف يورو لسيني، تعويضا عن الأضرار التي لحقت به بعد تسريحه من العمل.
رغم أن عددا من وسائل الاعلام الفرنسية أكدت استعدادها لمساعدة شارلي ايبدو على اصدار عددها المنتظر الأربعاء، فان هافينغتون بوست اكدت ان الاسبوعية مهددة بالافلاس، وان شارلي ايبدو التي تبيع 30 الف نسخة اسبوعيا اطلقت حملة لجمع التبرعات، فيما أكد ايف كارافاك بمقال في ليزيكو الفرنسية ان روح وفكر شارلي إيبدو ماتا، مع مقتل طاقم تحريرها، رغم المساعدات التي اقترحتها وزيرة الثقافة لدعم الصحيفة، داعيا الحكومة الى الاهتمام بالأطفال الفرنسيين الذين يتحولون الى ارهابيين في السجون وعلى الانترنت.
جزائري يعرض شراء «شارلي»
قال رشيد نكاز، المدافع عن المنقبات في فرنسا، إنه مستعد لشراء «شارلي إيبدو» ليقول للفرنسيين إن «المسلمين لا يقتلون، وحتى يفرض رقابة ذاتية على ما يسيء إليهم أيضاً».
وبحسب رشيد نكاز، الذي تخلى عن الجنسية الفرنسية كي يترشح لانتخابات الرئاسة في الجزائر في أبريل 2014، ولكنه خسرها، فإنه «سيعرض مجدداً شراء %51 من أسهمها، حتى يتمكن من فرض الرقابة الذاتية، على الأقل على صحافيي المجلة».
وقال إنه سبق أن قدم العرض في سبتمبر 2012 لقاء 350 ألف يورو، ولكن رئيس تحرير المجلة «شارب»، الذي قتل في العملية، رفض أن يمتلك جزائري مسلم أغلبية الأسهم، وقال نكاز إنه مستعد لأن يدفع أكثر حتى يدرك الفرنسيون أن المسلمين لا يقتلون».
في تحليله للهجوم استبعد الصحافي والناشط الفرنسي تيري ميسان أن يكون منفذا العملية من المتعاطفين مع الإخوان المسلمين أو القاعدة أو داعش، فلو كانا كذلك لدمرا كل أرشيف الجريدة مثلما يفعل الجهاديون في المغرب والشام، ولما كانا اكتفيا بقتل رسامين ملحدين.
ويقول إن تدمير الأشياء المسيئة إلى الدين أول واجب يتقيد به الجهاديون، ومن ثم معاقبة «أعداء الله»، ولو كانا جهاديين لما فرّا من الشرطة من دون إتمام المهمة، ومن دون الموت في ساحة العملية.
خلل في الأجهزة الأمنية
بدأ سياسيون وناشطون بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية تتلخص مهامها في تحديد العدد الحقيقي للشباب الفرنسيين الذين غادروا للجهاد في سوريا أو غيرها. ففيما تحدثت نيويورك تايمز عن 1000 فرنسي، قالت وسائل إعلام أخرى أن ألفي شاب فرنسي توجهوا للتدريب أو المشاركة في الحرب بعيداً عن أي رقابة سياسية أو عسكرية.
أما المهمة الثانية للجنة، فتكمن في تحديد أماكن المعسكرات التي يلتحق بها الشباب الفرنسي للتدريب، والمسار الحقيقي الذي سلكه الأخوان كواشي وأميدي كوليبالي، والأسباب التي حالت دون اكتشاف الاستخبارات الفرنسية لنشاط هؤلاء.
وأثيرت تساؤلات عن التدريب الذي يخضع له أفراد الشرطة في فرنسا، وعما إذا كانوا يخضعون لتدريب فعّال يتناسب مع التهديدات والتحديات.
اختبار عسير
يبدو المسلمون في فرنسا أول ضحايا الهجوم، ولكنهم لا يشعرون بالخوف فقط وإنما بالقلق، لأن الحادثة وفق مقال كتبه غاييل دوبون في لوموند ستعزز الكراهية والتمييز العنصري، كما أن الخلط بين الإرهاب والاسلام سيدفع المسلمين في هذا البلد الأوروبي إلى مواجهة مشاكل على مختلف الصعد، إن اجتماعياً أو مهنياً، رغم أن الرئيس هولاند أكد أن فرنسا تحارب الإرهاب وليس الدين.
هذا الوضع دفع المسلمين إلى التجند والتعبير عن رفضهم وتنديدهم بالهجوم في محاولة للتخفيف من وطأة الكراهية، خصوصاً بعد الاعتداءات التي استهدفت عدداً من المساجد.