رفعت عيني عن الشاشة بدهشة أحست بها، فبادلتني النظرات وهي تقاوم دموع زغللت عينيها..!! أعدت النظر إلى الشاشه حال عودتها الكتابة على شاشة هاتفها.. إنها بنيتي تطلب مني وعداً بأن لايتناول العالم صورنا حزناً وكمداً كما هي الآن حزينة. رفعت رأسي لترمي بهاتفها وترتمي بأحضاني: ماما، كيف ستغمض عينيها على دماء والدها؟! وبدأت الأسئلة: ما جريمة والدها علشان يحرموها إياه؟! وليش بلدنا رجع يخوف؟! ماما، خلاص أصبحنا نخاف داخل بيوتنا؟!
عاهديني بالمكوث بالمنزل... شددت يدي حولها، وأنا أغالط نفسي، هذرت بكلمات باردة كبرود أعصاب القاتل حين أقدم على فعلته قاتله الله... كلمات لاتمت بصلة لطلب بنيتي.. الشيء الذي كنت صادقة به تلك القبلات التي غمرتها بها وأنا أشتم رائحتها.
لتعود أدراج هاتفها وهي متربعة أمامي لتتمثل لي بأنها آية من آيات الجمال، وتأملت تلك الصورة التي جرحت بنيتي للإعلامي والصحفي عبد الكريم الخيواني، وابنته وهي تطرق أبواب الصبا، وأدركت كم هي عادة مؤلمة تلازمنا جميعاً عندما تصبح الصورة ذكريات في لمحة بصر.. لندفن بها مرحلة أو مجموعة من مراحل العمر بتفاصيلها وشخوصها وحكاياتها وأبطالها!
فتصبح الذكريات كمقابر جماعية تعرقل إلى الأمام خطواتنا بتكرار السقوط تحت نيران الثأر والانتقام، فالوفاء للتفاصيل المؤلمة هو تمسك بلحظات دافئة نعلم جيداً بأن الحياة لاتكررها مرة أخرى...
لذا، أرهقتنا كثيراً لعبة الموت المشتركة بين مجموعة يعيشون مع أوطانهم علاقة حب من طرف واحد، وفكر واحد، وتعصب واحد، وتحزب واجد، لنفجع بأن أوطانهم لاتحبهم بالقدر ذاته، فيشعرون داخلها بالغبن والقهر وخارجها بالذل! فالذي يظلمه وطنه لاتنصفه الأرض ! لذا، يصرخ أبناؤنا: أرهقتنا كثيراً لعبة الموت المشتركة بحب من طرف واحد، لتكون النتيجة رفوف ملأى بالذكريات المؤلمة المشتعلة بنيران الحقد. فأخذني الفكر لسنوات قادمة لو التقت بنيتي مع ابنة الشهيد عبدالكريم في الجامعة لتنهش بهم نفس الأطراف المتعصبة لحب هذا الوطن من طرف واحد.. آآآآآآه يااارب لم أحتمل معكم يا أبناء بلدة طيبة ورب غفور هذه الفكرة، لأضم صوتي إلى صوتكم، أرهقتنا كثيراً لعبة الموت المشتركة بين كل هذه المجاميع التي تحب الوطن من طرف واحد!!
فالأيام تأكل كل شيء، أيها المتعصبون، الطفولة.. والعمر.. والصحة.. والتعليم والتفاصيل.. والطرقات.. والمبادئ والقيم.. لهذا ما عادت الثوابت ثوابت، ولا القيم قيم، فوحدوا طرق الحب لهذا الوطن. [وتخلصوا من التحدث باسم الأموات للأحياء] وأطلقوا سراح أولادنا ليستنشقوا هواء هذا الوطن النظيف بعيداً عن المقابر الجماعية..
فما أغبى الجريمة باسم حب الوطن، لنكتشف بعد سنوات من المعاناة، أن كل ما تبقى لنا من تاريخنا وحضارتنا سوى وريقات تتوسد أغبرة الأرفف والخزائن، تحمل في ذاكرتها، أسماء لجماعات ومجموعات تحب هذا الوطن من طرف واحد، لبشر مروا بنا يوماً ورحلوا، فلا هم داموا ولا دامت أفكارهم!
أكملت سطوري ومازلت أتأمل بنيتي المتربعة أمامي، فتاهت صرخاتي من كثرهن، فما عرفت بما أختم هل أختم ب"يارجالاه"... والا أختم ب"بس كفاية".... والا أختم ب"آآآآآه ياوجعي"! لنضيف بأعلى الصوت صرخة من نوع جديد صرخة سخرية أرهقتنا كثيراً لعبة الموت المشتركة... ما عدنا نحتملها..