في هذه الأوضاع الأسوأ في حياة الأمة اليمنية ليس لنا إلا البحث عن مخرج، ولا مخارج أمامنا بسبب تكالب الأعداء وسوء تصرف النخبة التي يعول عليها الشعب، والكرامة اليمنية على المحك اما أن نكون أو لا نكون. من الصعب استلهام الكرامة من تجارب الآخرين، فالكرامة تولد مع الحرية ولا وجود لإحداهما بدون الأخرى، وفي ذكرى الكرامة اليمنية -جمعة الكرامة 18مارس 2011- لابد من العودة إلى حيثيات الكرامة التي حاول أعداء الشعب سفكها في مثل هذا اليوم.
يومها كنا قد أعلناها "ثورة بيضاء من كوالالمبور إلى صنعاء" حصلنا على ترخيص من مكتب الأممالمتحدة لتنفيذ وقفة ضد النظام الذي افحش في قتل الشباب في الساحات الثورية. رُتِبت الأمور بشكل طبيعي واقحمنا إتحاد الطلاب الذي كان يومها بيدنا في العمل السياسي متجاوزين اللائحة الداخلية التي تنص على مهام الإتحاد، الوضع في اليمن قد أجبرنا على ذلك، فكيف نسكت وكل هذا يحدث في البلد؟ كان هو السؤال الذي وجد إجابته في كل عمل ثوري نفذناه تحت مسمى الإتحاد ، لم يكن لدينا كمنظمة شباب التغيير في ماليزيا مسمى رسمي غيره. ربما نكون قد استغلينا الإتحاد بشكل سيء ودبجنا التصريحات لأعضاء الهيئة التنفيذية دون علمهم، استغلينا أسمائهم بالتوافق أحياناً وبالإحراج أحياناً، فليسامحنا الرب والتاريخ وهم أيضاً، بيت الثورة لا ينام ولا يدع أحداً ينام، نيران الثورة انتقلت من القلوب إلى الجدران إن نامت أجسادنا فالجدران مشتعلة.
تواصلنا يومها من بيت الثورة الذي كان مركزا لكل الفعاليات الثورية تخطيطا وتنظيما وترتيبا؛ الصالة تحولت إلى ورشة عمل لكتابة اللوحات وقصصة الكروت الصفراء التي رفعت أمام مكتب الأممالمتحدة، وبيت الثورة لمن لا يعرفه من كان شقتنا في بوكت سيردنج مجمع فيلا بارك بلوك A الدور 13 الشقة رقم 3، خلف جامعة APU ابت، في منطقة سردنج من ولاية سيلانجور الماليزية.
مازلت استمع لصوتي جيداً؛ يا شهاب مش وقت الرياضة اخرج ساعد قايد وعلي .. أين جاء عبد المجيد، تعال يا دكتور محمد نراجع شعارات الغد، اتصل يا علي للشباب في الولايات أرسل لهم رسائل بضرورة الحضور من الفجر، أخبرهم أن الوقفة دقائق معدودة سنرفع فيها صور الشهداء وشعارات بمطالب الثوار، لتلتقطها عدسات الإعلام التي تنتظرنا هناك. أيضاً يا علي إذا عاد باقي أحد من شباب المؤتمر يريد تقديم استقالته فليرسلها لك، من المهم الاستفادة من كل وسائل الاحتجاج المتاحة.
الوه دكتور وليد هل الخطاب الذي سنقدمه لمكتب الأممالمتحدة جاهز؟ نعم جاهز رد وليد، طلبت منه إرساله، وبمجرد استلامه أرسلته للدكتور محمد عبد الخالق لمراجعته والتأكد من محتواه، أخبرني محمد أن الصياغة مميزة، قلت الحمدلله.
ينتظرنا يوم شاق، يا عبد المجيد شوف لنا سيارة "أجندة" وهذا ليس نوع من أنواع السيارات بل نكاية بما اسمعونا إياه قبل أسبوع ونحن معتصمون في السفارة لأجل الضغط لزيادة المنحة، قال لنا مسؤولون في السفارة أنتم لديكم أجندات مشبوهة، أوه هذا الي كان ناقص وفي كل فعالية ثورية كان عبد المجيد الصوفي يأتي لنا بسياره أخر أجندة، ويقول هذا فرقي في الثورة سيارة وإيجار وبنزين ودفع تولات، أنت أحسن واحد يا مجيدي قلتها له مرارا.
نفذنا عددا من الوقفات في مبنى السفارة من باب "تذراب تايم" مستحيين أن قولها ثورة وقلبناها راتب، تمهيدا لإعلان الثورة، لا أدري هل كنا محقين أم لا، لكن هذا الذي تم، لا ثورة بدون مقدمات وتمهيد وتدريب للناس ليعبروا عن آرائهم ويحضروا، كسر حواجز الخوف كانت مهمة صعبة وإقناع الشباب فرداً فرداً يحتاج وقت ولقاءات وتواصل مستمر، الفيسبوك وفر علينا الكثير.
كان صباح الجمعة مشرقاً كمعظم أيام كوالالمبور، لكنه كان يوما مختلفا اليوم سنظهر بوجهنا الحقيقي أمام الناس ثورة يعني ثورة، لسنا أقل من أقراننا في ساحة التغيير بصنعاء وفي ساحة الحرية بتعز، هذا بداية عهد جديد ونهاية عهد تليد لن نتأخر، هكذا كنت أحدث نفسي أو أحدث علي الويناني على الدوام.
الشباب تجمعوا أمام سكاي فيلا في سيردنج والباصات جاهزة، هنا وفي مختلف المناطق، وجماعة المنظمة يتزايدون، شباب التغيير في ماليزيا يتحركون اليوم من كل أنحاء كوالالمبور وبقية الولايات الماليزية القريبة.
وبما أن الثورة جنون كان يوم الجمعة 18 مارس 2011 يوما للجنون في كوالالمبور، لم نهتم كوننا مغتربين وفي بلد بعيد وقوانينه مشددة، ولم نهتم لقطع منحة ولا لأذية قد تسببها السفارة، ولا بإمكانية الحرمان من الدراسة.
في بيت الثورة كان الإيمان بضرورة التغيير يزداد بشكل كبير كلما تلقينا وعودا من الشباب بالوقوف مع البلد ومع القضية والثورة، وفي يوم الجمعة 18 مارس 2011 كان أكثر من 600 شاب يمني يقفون في ساحة مكتب الأممالمتحدة في كوالالمبور يرفعون الكروت الصفراء ويحملون لوحات صور الشهداء، ويقف أمامنا حشد من الشرطة، منظرنا يستفز المارة ناهيك عن الشرطة، طلبت من الشباب الصمت، لكن هيهات منهم الصمت، كنت أحلم بتصوير صامت، لكنهم قالوها متناسيين أننا في كوالالمبور "الشعب يريد" يا عبد الكريم عاصم لو سمحت .. الحشد مغري والهتاف لذيذ والشعب يريد ملأ يومها آفاق كوالالمبور.
رجال الشرطة تحفزوا بهراواتهم واتجهوا نحونا go go فتفرقع الجمع حصل البعض على ضربات خفيفة من هراوات الشرطة، لكن لا أحد مهتم فالدماء تغلي والضرب ليس سيئا، والوطن يستاهل والثورة مستمرة. حرصنا على سحب الجميع إلى السيارات والباصات واكتمل المشهد باخلاء باحة مكتب الأممالمتحدة، وفي مقعدي بالسيارة كنت مزهوا وأقول "فعلناها".
كنا نريد 200 طالب كفاية، لكن حضور 600 فرد كان مرعبا ومبهجا في آن، هذه ساحة وليست وقفة احتجاجية فقط، عدنا بعد يوم حامي غباره إلى بيت الثورة، وكأن صالح قد رحل بمجرد هتافنا وثورتنا البيضاء من كوالالمبور لا صنعاء وكأنه قد خشي من كروتنا الصفراء التي رفعناها ضده وضد نظامه وحكمه العائلي.
كان يتوجب علىَّ صياغة تقرير وإرساله للصحف مصحوبا بالصور والفيديوهات لتبثه وسائل إعلام الثورة، إقترب وقت المغرب ومازلنا ساهرين من اليوم السابق و لازم من تقرير مفصل، لكن الفيسبوك اللعين كان يخبرنا بمجزرة الكرامة استشهد زميلي وصديقي جمال الشرعبي و52 آخرين، صبي يا دموع، وانهاري يا سماوات، حول صالح نصرنا في كوالالمبور إلى هزيمة في صنعاء، قتلنا قتله الله، كيف لهذا العكفي قواد بغلة البدر أن يسفك دماء كل هذا العدد من الشباب، كيف انصرف أنصار الله من الساحة في صنعاء واختفوا يومها، هل كان أولئك الملثمين بجوار القادسية في صنعاء يحملون أية صفة بشرية؟ اللعنات لا تكفي لاغراق سنحان في الجحيم، لأول مرة في حياتي أشعر بالهزيمة والوجع اللامتناهي.
من سيكتب التقرير أي صحفي أنا، مع كل حرف سقطت دموع كافية لمحو ما يصادفها من حبر، اللعنة عليك يا عفاش الكلب، واللعن لا يغني شيئاً، اتصلت لزميلي محمد عبد الخالق يومها لعلي أجد كلمات مسكنة، كان يبكي وصوته خافت، لا خفف عني ولا خففت عنه، إنه الوجع الوجع يا الله.
جمال استشهد جمال قال جمال جمال، مشهد الدم غلب مشهد الحبر، "اليمنيون في ماليزيا ينظمون وقفة احتجاجية أمام مكتب الأممالمتحدة احتجاجاً على جرائم النظام" هكذا كتبت العنوان يومها للتقرير الموجوع الذي نشرته مختلف مواقع ووسائل إعلام الثورة، في وقت متأخر من مساء الجمعة الدامية.
وهل يكتب المهزوم جملة صحيحة؟ وهل يسطر المقتول أحرفاً صالحة للقراءة؟ بالطبع الإجابة اليوم لا، لكن يومها كانت الإجابة نعم، الشهادة كرامة والكرامة بدأت بجمعة الكرامة، والدم المراق سيكون لعنة في وجه صالح ومن ساعدوه في قتل أرواحنا ..
هالني اليوم وأنا أعيد قراءة البيان الذي سلمناه يومها لمكتب الأممالمتحدة في كوالالمبور العبارات التي صغناها يومها، كنا ندرك ماذا نريد بالتحديد وقد ضمنتها في التقرير الصحفي المنشور يومها: "ودعوا في بيانهم الذي سلموا نسخة منه لمكتب الأممالمتحدة جموع الشعب اليمني إلى مساندة الشباب في ساحات التغيير والحرية والضغط للمسارعة في اسقاط النظام. ودعوا الشباب إلى عدم القبول بأي مفاوضات أو حوارات من شأنها إبقاء صالح في السلطة. ودعا البيان كافة أبناء القوات المسلحة والأمن الشرفاء الذين هم أبناء الوطن وحماته وحماة أهله إلى الانضمام إلى صف الشعب، كما دعا البيان دول العالم لمساندة الشعب اليمني في تحقيق مطالبه".
لم يخذلنا الشعب وإن خذلنا العالم والأممالمتحدة فيما بعد، لا شيء مهم كنا ومازلنا على حق، لم ولن نبحث سوى عن الكرامة وسنصل إلى مبتغانا طال الزمان أو قصر. والمشاركة في فعالية أو فعاليات لا يمنح المشارك الصفة الثورية المطلقة، الثوريون هم المستمرون على ثورتهم حتى تحقق أهدافها، ولا ثورة بدون ثوريين ورموز، وكل شهداء جمعة الكرامة ثوريون ورموز وخالدون للأبد، ويكفي أن أسمائهم قرنت بالكرامة للأبد.