ردّد صابر الجملة مع نفسه، وهو يلقي بجسده المنهك في التاسعة صباحا على أحد كراسي القهوة القريبة من المستشفى الحكومي الذي يعمل فيه متطوعاً بدون راتب ثابت منذ تخرجه من كلية الطب.. طلب قهوة البن بالحليب والمطبّق السادة كالعادة.. كانت مناوبة الليلة الماضية كارثية بكل معنى الكلمة .. العدد الكبير من مرضى كورونا الذين إمتلأ بهم المشفى يفوق طاقة احتمال أي طبيب.. تذكر الطبيب صابر بأسىٰ أساتذته الكبار الذين فتك بهم كورونا.. دار بخلده أن السيد"كوفيد" لن يجد صعوبة تذكر في القضاء على حتة جي.بي G.P(طبيب عام) صغنّون مثله ،يتجول بين المرضى بلا وسائل حماية طبية معتبرة.. الليلة الماضية كانت حافلة بمشاهد الأكشِن أيضا؛فقد نجا من الموت بأعجوبة بعد تفاديه طعنة قاتلة من جنبية (سلاح أبيض) كانت متجهه نحو عنقه مباشرة إثر اقتحام أهالي أحد المتوفين المستشفى بالقوة عند الخامسة فجراً .. لم تعد حوادث الإعتداء والتنمر على العاملين في القطاع الصحي تثير الاهتمام كثيرا،فقد أصبحت حدثا عاديا مكررا في الآونة الأخيرة.. بدأ صابر بالتهام المطبّق السادة بنهم.. وفي مابدا له أنه اكتمال للتراجيديا،لمح بطرف عينيه شخصين يحتلان المائدة المجاورة على يساره، يتبادلان الحديث بصوت مرتفع عن الأطباء الأوغاد وكيف أصبحوا لا هم لهم إلا جمع الأموال... هؤلاء ال.... يكسبون الكثير من المال بينما هم لايهتمون بالمرضى على الإطلاق.. استمر الرجلان في الحش على الأطباء والمستشفيات وبدوره استمر الدكتور صابر في التهام المطبّق السادة.. إمتلأت معدة صابر على آخرها بالمطبّق،وحانت اللحظات السعيدة التي يحبها، وقت اكمال ارتشاف ومزمزة قهوة البن بالحليب.. مذاق القهوة كان متغيراً هذه المرة ؛ فالجماعة في اليسار كانوا مصرين في حديثهم أن الأطباء يأتون للمستشفيات فقط من أجل اللهو مع الممرضات الجميلات.. ثم دخلوا في مرحلة استخدام الألفاظ العامية البذيئة.. أسرع صابر في ارتشافه للقهوة مرددا مع أبو بكر سالم آه.. يا بُن، طعمك اتغيِّر .. صوتهم كان يعلو وهم يقسمون أن كل الأطباء يستحقون العقاب.. بالطبع دكتورنا "صابر" لم يفكر بالمواجهة، ففي تقييم سريع للموقف كان قد لاحظ أن أحدهم ضخم الجثة، يكاد يتطاير الشرر من عينيه، ويعلو رأسه شعر مجعد يتخلله الكثير من الملاخيخ، واضح أن آخر علاقة ودّية له مع الماء تجاوزت الشهر .. الآخر وان كان يبدو وديعاً بعض الشيء ولكنه بينما كان يتناول طعامه باليد اليمين، كانت اليد اليسار تمسك بكلاشنكوف مدده بالعرض فوق فخذيه أثناء جلوسه.. المعركة محسومة إذا ولامجال للمجازفة.. حمد الله أنه أخفى معطفه الأبيض جيدا في الكيس البلاستيكي بجانبه.. ابتسم بمرارة وهو يتذكر ذلك الزمن الجميل في السنة الرابعة من كلية الطب، بداية عهده بالمستشفيات، كيف كان يتعمد المشي بلا هدف في شوارع صنعاء كي يراه أكبر عدد ممكن من الناس ومعطفه الطبي ملفوف بعناية حول ساعده الأيسر، مكويا، أبيضا ولامعا.. كانت إبتسامة المستقبل السعيد المنتظر تعلو وجهه.. كم كان غرا، ساذجا وقتها.. جال بفكر صابر أن الشعوب و المجتمعات عندما تجبن في المواجهة مع من يقهرها وتعجز عن مواجهة السبب الحقيقي لمشاكلها تحاول تفريغ شحنات القهر المتراكمة بطرق شتى قد يكون التنمر على الأطباء أحد تجلياتها.. تأمل بمزاج كافكاوي بقايا القهوة في الكوب،خيل إليه أنها تحوي الكتير من الطلاسم والأشكال، ربما لو رأتها غجرية من قارئات الفنجان لقالت والخوفُ بعينيها : يا ولدي.. لا تَحزَن. فالغُبن عَليكَ هوَ المكتوب.. ارتشف كل بقايا القهوة في الكوب جرعة واحدة واقفا؛ ثم أدار ظهره للمستشفى والناس..،وغادر.