في مشهد مألوف ومتكرر، تختفي المشتقات النفطية فجأة من محطات الوقود في العاصمة صنعاء ومناطق سيطرة مليشيات الحوثي الانقلابية ما بين الحين والآخر، لتعود لاحقا إلى السوق بشكل مفاجئ وكأن شيئا لم يكن. ورغم أن الأسباب قد تُعزى إلى اضطراب مؤقت في الإمدادات، فإن الوقائع المتكررة تكشف عن نمط منهجي لأزمات مفتعلة تُستخدم كأداة ابتزاز اقتصادي بحق السكان، ووسيلة لنهبهم من خلال السوق السوداء التي يديرها الحوثيون أنفسهم.
وتعليقا على هذا المشهد، كتب القاضي عرفات جعفر، "أحد سكان صنعاء" تغريدة ساخرة على منصة "إكس" قائلا "توفرت المشتقات فجأة في جميع المحطات التجارية، وانتهت مظاهر الأزمة بالكامل. هل تعلمون لماذا؟ لأنها سلعة مربحة تُباع للمواطن بخمسة أضعاف سعرها العالمي".
واتهم جعفر ضمنياً قيادات في شركة النفط الحوثية بافتعال الأزمة الأخيرة لتصريف شحنة بنزين مغشوشة أثارت فضيحة مدوية، ولتغطية القضية وسط الضجة المفتعلة.
وأشار في سلسلة تغريداته إلى اجتماعات سرية عقدها من وصفهم ب"هوامير رأس السلطة" و"مافيا شركة الشفط"، تقرر فيها تسويق ما تبقى من الوقود المغشوش عبر افتعال أزمة، ليُدفع المواطنون إلى الاصطفاف في طوابير طويلة وتُباع لهم المواد البترولية بأسعار خيالية.
من "إسقاط الجرعة" إلى احتكار السوق
هذه الأزمة امتداد لنهج الحوثيين منذ اجتياحهم للعاصمة صنعاء عام 2014 بذريعة إسقاط "الجرعة" – أي رفع سعر البنزين بمقدار 500 ريال فقط – لتتحوّل تلك الذريعة إلى أداة دائمة لابتزاز الناس، وتحقيق ثروات طائلة من خلال سوق سوداء تُدار من أعلى هرم السلطة. قبل الانقلاب، كانت شركة النفط الحكومية وبعض الشركات المرخصة مسؤولة عن استيراد وتوزيع الوقود، لكن بعد ذلك، قام الحوثيون بتفكيك النظام الرسمي، ومنحوا تراخيص استيراد جديدة لما لا يقل عن 52 شركة مرتبطة بقياداتهم، بحسب تقارير لجنة العقوبات الأممية، ما أطاح بأي دور فعلي لشركة النفط التي أصبحت مجرد كيان هامشي.
اقتصاد السوق السوداء
وفقا لفريق الخبراء الأممي، يتعمّد الحوثيون خلق ندرة مصطنعة في الوقود لدفع التجار إلى السوق السوداء التي يديرونها بأنفسهم، ما يسمح لهم بجني الرسوم غير القانونية وتكديس الأرباح. وخلال الهدنة التي أُعلنت في أبريل 2022، والتي رُفعت بموجبها القيود على واردات الوقود إلى ميناء الحديدة، تضاعفت أرباح الحوثيين من هذا القطاع، دون أن ينعكس ذلك على حياة المواطنين أو دفع الرواتب. وخلال سبعة أشهر فقط من ذلك العام، جمع الحوثيون 271.9 مليار ريال من الرسوم الجمركية، دون تخصيص أي جزء منها للرواتب، رغم التزاماتهم بذلك بموجب اتفاق ستوكهولم.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل استغلوا هذه التسهيلات لخلق أزمات وقود متكررة، وبيع الصفيحة الواحدة (20 لتراً) بسعر وصل إلى 24,000 ريال في السوق السوداء، ما ضاعف أرباحهم من هذا القطاع.
في تقرير العام الماضي، قدّر فريق الخبراء عائدات الحوثيين من الوقود وحده بحوالي 1.34 تريليون ريال يمني بين أبريل 2022 ويونيو 2024، ذهب معظمها لأغراض عسكرية.
استراتيجية للنهب المنظّم
يمثل التحكم بسوق الوقود حجر الأساس في استراتيجية الحوثيين الاقتصادية، إذ يؤدي افتعال الأزمات وتقييد العرض الرسمي، إلى دفع المستهلكين إلى السوق السوداء التي يسيطرون عليها، ويضاعفون أسعار البيع لتحقيق أرباح خيالية. هذا الفارق الهائل بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء يُعد مصدر دخل مباشر وضخم للحوثيين، يتيح لهم استخلاص ثروات من المواطنين، تحت غطاء الحاجة اليومية والطوارئ المفتعلة.
تمثل أزمة الوقود مجرد نموذج لنظام اقتصادي موازٍ أنشأه الحوثيون ويقوم على إدارة الأزمات وعلى تحويل كل معاناة إلى فرصة لجباية المال وتكريس السلطة.