صفحة رائعة من صفحات التاريخ العريق وقلعة شامخة من قلاع الإسلام والعروبة. إنها اليمن العربية السعيدة، صاحبة الجنان والسدود العظام، والتي استحقَّت الذكر في كتاب الله العزيز المنان في أكثر من مناسبة! بل وسُمّيت سورة في القرآن باسم إحدى مملكاتها القديمة. وهي سورة سبأ. تعدد ذكر اسم اليمن في كتب التاريخ؛ فهي عند قدماء الجغرافيين "العربية السعيدة"، وفي " التوراة "يُذكر اليمن بمعناه الاشتقاقي أي الجنوب و ملكة الجنوب (ملكة تيمناً)، وقيل سُمّيت اليمن باسم (أيمن بن يعرب بن قحطان)، وفي الموروث العربي و عند أهل اليمن أنفسهم أن اليمن اشتق من اليُمن؛ أي الخير و البركة، و تتفق هذه مع التسمية القديمة العربية السعيدة. فهل ما زالت اليمن كما كانت أم أن الأمر قد تغير؟ ولكي نجيب على هذا السؤال فلا بد أن نطلق العنان لمخيلاتنا لتدور في محافظات ومديريات وقرى الجمهورية اليمنية، ونقابل الوضع هناك لنعرف ماذا يدور وماذا يجري .. يمن اليوم تتقاذفه الأمواج، وترسو على موانئه سفن المشكلات؛ ففي الجنوب حراك وخراب، وفي الشمال حوثيون يتربصون ويتقوّون ويتزودون بالمؤن والأسلحة، وينشرون مبادئهم وأفكارهم في الأوساط، وما بينهما يتغلغل تنظيم القاعدة وينفذ عملياته. إذاً اليمن تمر بأزمة حقيقية، والصامت عنها سيتحمل مسؤولية الكارثة التي ستحلّ بالشعب اليمني. .. وهناك أزمة اقتصادية لا تقل شأناً عن الأزمة السياسية بل ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي.. فاليمن مشكلتها لن تحلها قروض صندوق الوصاية الخليجي، ولا ضمانة الدول والصناديق المانحة. الأزمة تكمن في سوء تدبير خيرات ومنح هذا البلد العريق.. اليمن تعيش حالة من انعدام الأمن والاضطرابات. مستقبل مخيف تزايدت التحديات أمام اليمن الذي يحتل مكانة إستراتيجية هامة في المنظومة الإقليمية. وتأتي هذه المشكلات وسط تحديات أخرى أكبر تتعلق بصلب عملية التنمية والتحديث، والتغلب على مشكلات تقليدية مثل الثارات القبلية وانتشار السلاح والفقر والبطالة. إذاً البلد مهدّد بمستقبل مخيف، يهدد بالانزلاق إلى ما هو أبعد، ليجعل من الاستحالة تدارك ما يمكن تداركه حالياً، لا نريد زرع القلق والخوف من المجهول، ولكننا لا نستطيع القفز على صفحات الواقع. بقع النار انتشرت في أماكن عدة وبشكل متوالٍ سريع، لتجعل من السلطة حائرة أي من البقع تواجه، وتحاول بقدر المستطاع الترقيع المؤقت الذي يثبت فشله. ما يدور في اليمن بعث برسائل القلق إلى دول الجوار، وأصبحت تتابع التطورات بقلق؛ إذ ستنعكس حال البلد عليها عاجلاً أو أجلاً. لذا كان لزاماً على كل غيور سواء كان يمنياً أو من دول الجوار، فرداً أو نظاماً أو مؤسسةً أو جمعيةً أن يمد يده بأمانة ونزاهة ومسؤولية لانتشال هذا البلد العريق من أزماته.. لا أحد يستطيع القول إن نظام صنعاء ليس له دخل في ما يجري، بل يعلم الجميع أن سياسة هذا النظام وأخطاءه هي التي أفرزت هذه الحزمة من المشكلات، لكن ليس الحل في المكايدات والمناكفات السياسية وتسجيل المواقف؛ فلا مجال أمام الجميع من أحزاب سياسة ومنظمات وهيئات ودول جوار إلاّ المسارعة في إيجاد الحلول والبدء بخطوات عملية لا تصريحات صحفية واتهامات عبثية. وإننا عندما نطلب من دول الجوار أن تمد يدها، فليس لدفع الأموال والمعونات وحسب، وإن كانوا مشكورين على ذلك، لكن الأمر أكبر من دفع أموال ومساعدات.. نريد من دول الجوار المساهمة في إيجاد جو حوار وتقارب بين السلطة والمعارضة، والضغط عليهم لإيجاد الحلول الكفيلة بحل مشكلات اليمن، والحفاظ على وحدته واستقراره، وكل ما من شأنه الإصلاح. إن خطر الحوثيين لا يزال قائماً؛ فالسلاح لا يزال بأيديهم والمؤن والذخائر، ولا يزالون يسيطرون على أغلب المواقع التي استولوا عليها في الحروب السابقة؛ فالمسألة عندهم مسألة وقت لالتقاط الأنفاس وترتيب الصفوف، وإني أشم رائحة حرب جديدة.. أجارنا الله منها وكفّ عنا شرها. ما يحدث في الجنوب ليس شيئاً عابراً أو حدثاً عادياً، بل هو عمل منظم ومخطط ومدروس هدفه النهائي فك الارتباط كما يزعمون، طبعاً ما يُسمّى بالحراك هم ليسوا حراكاً واحداً أو تياراً واحداً، وإنما هناك أكثر من تيار، وأكثر من هدف، وإن كان أغلب من يقودونه همهم المصالح الشخصية والنزوات الذاتية. لكن لهم هدفاً مشتركاً، وهو إلحاق أكبر ضرر بالنظام وفك الارتباط. والخاسر البلد بأكمله لا الشمال والجنوب وحسب، وإنما الشعب اليمني هو الخاسر. أصبحت القاعدة الآن في مواجهة مباشرة وحرب مفتوحة مع الدولة، ولها وجود في شمال وجنوب اليمن، بل وكسبت ودّ العديد من القبائل المحاربة المعروفة بشراستها في كل من مأرب وشبوه وأبين وغيرها. الجو الأمني المتدهور في المحافظات الجنوبية ساعد القاعدة كثيراً في التحرك بسهولة. أزمة اقتصادية المشاكل المزمنة التي تواجهها اليمن في المجالات الاقتصادية والسكانية والموارد الطبيعية والتنمية البشرية تزداد سوءاً مع مرور كل عام، إن أهم ما في الموضوع هو أن المخزون النفطي للبلاد تقريباً مهدد بالتقلص، وأن إنتاج اليمن من النفط متواضع جداً، إذا ما وضعنا في الحسبان أن البترول يشكل المصدر الرئيس للدخل القومي للبلد. ويشير مراقبون إلى أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها اليمن سيكون تأثيرها أشد على الحكومة اليمنية من التهديدات الأخرى التي تواجهها مثل "الحراك" في المحافظات الجنوبية، والتمرد الحوثي، وتجدّد نشاط القاعد. قلق آخر يواجه اليمن أيضاً هو حقيقة نفاد المياه بسرعة؛ فالمياه الجوفية المستخدمة في الزراعة والاحتياجات الإنسانية الأساسية تُستنزف بصورة أسرع من الكمية التي تحل محلها، مما أدى إلى هبوط منسوب المياه بشكل كبير، ويُتوقّع أن تصبح صنعاء أول عاصمة في العالم تنفد فيها المياه. وأخيراً... ليعلم الجميع أن تفاقم المشاكل واتساع رقعتها قد يؤدي إلى ويلات كثيرة، لا تحمد عقباها ليس على اليمنيين فحسب بل وعلى دول المنطقة.