لا بد من الحوار وإن طال التلكؤ والرفض، إذ لا سبيل غيره لحلحلة الأوضاع المتأزمة والأوضاع المشتعلة في البلاد، وهو وإن جاء متأخراً إلا أنه أفضل من ألا يأتي، فعلى مدى السنوات الماضية جلس الحزب الحاكم وأحزاب اللقاء المشترك على طاولات الحوار لمرات عديدة، وذلك لبحث ومناقشة الأزمات الوطنية، وخصوصاً ما يتعلق منها بالعملية الانتخابية والسياسية، غير أن ذلك الحوار ظل حبيس الرؤى المتحجرة ورهن الاستغلال غير الجيد، إذ أنه كان بالنسبة للبعض نوع من أنواع المناورة والمراوغة السياسية لكسب الوقت وتسجيل ما يعتقده نقاط فوز الطرف الآخر، ولهذا لم يكتب للحوار النجاح، ولم يسجل تقدماً ملحوظاً، فيما كانت أزمات البلاد تتفاقم وتدفع نحو الغليان، لتأخذ المشاريع الصغيرة والأساليب المناوئة للثوابت الوطنية في التمدد والاتساع على حساب أمن واستقرار البلد، ويضطر الحزب الحاكم مرغماً على محاورة كل من يلجأ إلى الوسائل العنفية الخارجة عن الإطار الدستوري والقانوني، ويقوم بتلبية مطالبها، بصورة تشّرع لتلك الوسائل والأساليب، وتدفع ببعض أصحاب الحقوق والمظالم للعدول عن النضال السلمي الحضاري للأخذ بأساليب قطاع الطرق وشذاذ الآفاق. هو الحوار وليس غيره الطريق الأسلم لليمنيين جميعاً، باعتباره قيمة سامية ووسيلة حضارية مثلى تحشد كل الأفكار والرؤى والجهود والطاقات لحلحلة الأزمات وإصلاح المسار وتقويم الاعوجاجات وإخراج البلاد من عنق الزجاجة إلى فضاء رحب من التكاتف والشراكة وبناء الثقة والنهوض في كافة المستويات؛ وما ينبغي التأكيد عليه هو أن على عقلاء الحزب الحاكم ألا يدعو فرصة لطابور الفتنة ولوبي الفساد لخلط الأوراق والدفع بالحزب إلى التنصل في الجولات الأخيرة، كما كان يحدث في الفترة السابقة، وألا يتم التعامل مع الحوار كنوع من أنواع المناورة والمراوغة، أو لممارسة الحذلقة على الآخرين وإخفاء سياسة التفرد وراء التعاطي مع قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على النحو الذي يفرغها من مضمونها، كما كان سابقا أيضاًً، حيث كان البعض لا ينفك عن الحديث عن الحوار والدعوة إليه والتمسك به كخيار وحيد لحل الأزمات، لكنه عند التجسيد العملي للحوار يسعى إلى تحويله إلى أداة للمناورة ليس إلا..تماماً كما يجري التعامل مع الانتخابات التي باتت أداة لإعادة إنتاج الذات عبر صناديق الاقتراع وتحت يافطة الديمقراطية واحترام إرادة الشعب!! ولذا فمن المهم بعد توقيع محضر الاتفاق التأكيد على أمر طالما نبه له المشترك وكان عدم التزام الطرف الآخر به سبباً في التعثر، وهو أن على المؤتمر الشعبي العام التعاطي مع الحوار من موقفه كحزب لا يميزه عن غيره من الأحزاب شيء سوى أنه يدير السلطة والدولة وبصورة مؤقتة، لا أن يحاور المشترك كمالك للسلطة والدولة، فالفرق بين الملكية والإدارة ينشئ مفاهيم مختلفة لمضامين الحوار مع أطراف الحوار السياسية الأخرى ففي الأولى يرى الحوار بأنه تشاور لا يلزمه بشيء، يأخذ منه ما يراه ضرورياً لحاجته ولا يقدم بموجبه أي تنازلات تمس مفهوم الملكية للسلطة والدولة لديه، أما في الثانية فإن الحوار هنا يضع الجميع أمام مسؤولية مشتركه في الوصول إلى نتائج وأهداف تتجاوز حاجتهم الذاتية إلى حاجة البلاد والمجتمع. وقد كان هذا الأمر أحد أهم أسباب تمسك اللقاء المشترك بحوار جاد خلال جولات الحوار التي بدأت بعد انتخابات 2006م، بعد أن كان المؤتمر الشعبي يلجأ في الفترة السابقة إلى التسويف والمماطلة، وأوقف الحوار ولم يهتم به سوى بعد أن استطاع الحراك السياسي في المحافظات الجنوبية وأجزاء واسعة من البلاد ينتج شروطاً جديدة وظروفاً أخرى، وكان واضحاً أن المؤتمر يعود إلى الحوار لأغراض لا تمت بصلة لقناعته بقيمة الحوار في إصلاح أوضاع البلاد المتدهورة وإنما لاحتواء الظروف الجديدة، وبرهن على ان الحوار السياسي بالنسبة له ليس سوى مناورات لتمرير قضية معينة هنا أوهناك، في حين أخذ يسير منفرداً في كثير من القضايا التي كانت في الأساس موضوعات للحوار ومنها موضوع الحكم المحلي ، أخذ إعلامه وإعلام الحكومة يتحدثان عن الحوار في مغالطات الهدف منها الضغط على «اللقاء المشترك»بالقبول بصيغة الحوار القديم ،وإيهام الرأي العام المحلي والمراقبين الأجانب بأن «المشترك»هو الرافض للحوار. كانت هذه أسباب رفض المشترك لمثل هكذا حوار غير جاد في الفترة الفائتة، وحالياً على قيادات الحزب الحاكم ألا تعيد إنتاج مثل تلك الأسباب بعد توقيع الاتفاق الأخير، وألا تبرئ ساحتها وساحة سلطتها مما أنتجته سياساتها وممارسات القوى المتنفذة لسلطتها من أوضاع خطيرة أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من صدامات وعنف وحروب، لأن ذلك إنما يدل على غياب النية الصادقة، لتشخيص الأزمة الوطنية التي تمر بها البلاد، بروح مسئولة وجادة تتفق مع تطلعات الشعب إلى معالجات جذرية وحكيمة وصادقة لمظاهر الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية وتجلياتها الوطنية. كما يتعين عليها عدم التصرف بمضمون وأهداف الحوار إلى ما استقرت عليه تعاملاتها السياسية الساخرة من الحوار والتي لا هم لها سوى توظيفه لاستغلال الوقت وتمرير كلما تتمسك به من رؤى وأهداف ومواقف تنصب جميعها في حماية سلطتها فقط دون اعتبار لما تتطلبه ظروف البلاد والعباد من إصلاحات جذرية تؤمن مسارات حقيقية نحو النهوض الوطني الشامل وتأمين حل المشكلات والصراعات الداخلية بكلفة اجتماعية أقل وتوفير الشروط والظروف المناسبة لتوسيع فرص الخيار الديمقراطي وتحويله إلى مشروع حقيقي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية دولة النظام والقانون والمواطنة وشراكة كل أبناء الوطن. فالحوار هو خيارنا الوطني الذي يؤهل وطننا للنهوض الحقيقي، وهو الخطوة الأولى في الاتجاه السليم، ولابد من العمل على إعادة الصلة بينه وبين مضامينه الحقيقية، والاستجابة لصوت العقل والمنطق وتغليب المصلحة الوطنية على ما عداها من المصالح والكف عن أساليب المناكفات السياسية التي لا فائدة منها، مع الإشارة إلى أن الحوار يتطلب إرادة سياسية تتجه بالجهود إلى غاياتها الوطنية الجادة والمثمرة بعيدا عن المناورات التي اتسمت في الحوارات السابقة، حيث أن ما وصلت إليه الأوضاع في الساحة الوطنية لم تعد تحتمل هذه السياسات التي يتم التعامل بها مع الأزمات القائمة التي تمر بها البلاد.