يتحدث شاعر اليمن الكبير د.عبدالعزيز المقالح عن رمضان وفضائله وحكايته معه,ويحلق بعيدا في أجواء الشعر معبراً عن الجمال والقيم الرفيعة وعن الشباب. في ما يلي نص الحوار الذي أجراه الزميل عبدالغني المقرمي لأسبوعية الصحوة :
* يلاحظ المتأمل في إصداراتكم الأخيرة أنها جنحت نحو الأفق الصوفي محاورةً فريد الدين العطار، وأحمد بن علوان، وغيرهما.. فما سر هذا الجنوح؟ - ليس هذا الاتجاه جديدا في خطابي الشعري، ومن يتتبع تجربتي الشعرية كلها لا بد أن يدرك أنني منذ البداية كنت شديد الميل إلى كتابة هذا النوع من الشعر، الذي يخاطب الروح، ويناشد الوجدان الديني، وهناك قصائد يمكن الإشارة إليها منذ دواويني الأولى، تنزع نحو هذا المنحى الذي يسمونه التصوف، وربما كان ذلك ناتجا عن ظروف الحياة التي مررت بها بداية الشباب، وعن تأثري غير المباشر بشاعرين عظيمين، هما: الشهيد العظيم الأستاذ محمد محمود الزبيري، والشاعر السوري الكبير عمر بهاء الدين الأميري رحمهما الله، فقد ترك هذان الشاعران بصماتهما على تلك البدايات، وربما ما يزال تأثيرهما يسري في وجداني حتى هذه اللحظة، وهذا -بطبيعة الحال- لا يمنع من الإشارة إلى التأثر بشعراء المتصوفة، كالعطار، وابن علوان، وعبدالهادي السودي، والأخير من أهم شعراء هذا الاتجاه الروحي في اليمن. * لصنعاء حضور متميز في نصكم الأدبي شعرا ونثرا... فما سر شغفكم بهذه المدينة؟ - المكان جزء أساسي في تجربة الشعراء، ولا يمكن للمبدع –أي مبدع- أن ينطلق من فراغ، وأن لا تأسره مشاهد الحياة من حوله بناسها وأحداثها ومواقعها، ويعود انبهاري بصنعاء إلى اللحظة التي دخلت فيها هذه المدينة وأنا طفل في السادسة، سكنت ذاكرتي بمآذنها وقبابها ومنازلها المطلية باللون الأبيض، ونوافذها وشرفاتها، وشوارعها وأزقتها، ولا أخفي أنني كنت كل يوم تقريبا أصعد إلى سطح المنزل الذي كنت أسكنه لأستوعب المزيد من مشاهد المدينة الغارقة في ضوء النهار، والحق يقال أن صنعاء –قبل أن يفسدها التوسع- كانت لوحة نادرة من زمان قديم، أجاد الله سبحانه وتعالى إحاطتها بالجمال الطبيعي، وأجاد الإنسان اليمني التعامل بجمالية فائقة مع معمارها، وهندسة أشكال بيوتها، والتوافق مع هذه الجميلة الساحرة، ولا بد لي من الإشارة إلى أن مدينة صنعاء وإن كانت قد أخذت النصيب الأوفر من اهتماماتي وذكرياتي إلا أن هناك مدنا يمنية وعربية وأجنبية قد استأثرت بقدر كبير من إعجابي، ولا أنسى في هذا الصدد الحديث عن مدينة تعز، ومدينة عدن، وعدد من المدن اليمنية التي استأثرت بإعجابي، وكانت موضعا لأكثر من قصيدة، ويمكن العودة إلى ديواني (كتاب المدن) للتعرف على نماذج من ذلك الافتتان، والتعرف أيضا على محبتي وامتناني لمدن عربية وأجنبية منها على سبيل المثال: مكةالمكرمة، والقاهرة، ودمشق، والاسكندرية، ومن المدن الأجنبية التي تركت أثرا وجدانيا في حياتي باريس وأثينا وروما ومدينة صغيرة في الهضاب الجنوبية في سويسرا وهي (القانو).
* كأديب وشاعر مسكون بالجمال.. لا ريب أن لرمضان بما يحمله من أجواء إيمانية ونفحات روحية مكانة خاصة لديكم وذكريات حاضرة في الوجدان.. فهل بالإمكان أن تعطوا القارئ الكريم فكرة عن ذلك؟ - ليس غريبا أن يكون هذا الشهر الكريم من أحب الشهور إلى النفوس، ولي معه ذكريات جميلة وباذخة، سواء هنا في مدينة صنعاء، أو في بقية المدن التي عشت فيها لفترات سواء في مصر وفي مدينة القاهرة التي يتفق الجميع على أنها مدينة رمضانية بامتياز. ومن عادتي أنني في كل عام، وقبل أن يهلَّ علينا هلال هذا الشهر الكريم، أكون قد أعددت مشروعا ثقافيا متكاملا، للقراءة والكتابة، وبعض أعمالي الشعرية التي أعتزُّ بها كتبتها في هذا الشهر الفضيل، والموسم الإيماني الذي تسمو فيه الروح، وتقترب من الشفافية المغرقة، وكنت مع عدد من الأصدقاء نخصص وقتا من أوقات هذا الشهر الكريم لقراءة بعض الكتب الصوفية سواء ما كان منها قديما أو حديثا، وكم أتمنى على شبابنا أن يخرجوا من سيطرة الروتين المباشر على حياتهم، وأن يجربوا الإطلالة بين الحين والآخر على الكتابات الروحية التي تساعدهم في الارتقاء، ومواجهة الواقع الجاف الذي بدا وكأنه في حالة حرب مع الروح، وتصادم مع القيم.
* لقراءة القرآن الكريم، والسفر في أجوائه المؤنسة حالة استثنائية ومذاق خاص في هذا الشهر الجميل، الذي هو أساسا شهر القرآن الكريم.. فماذا عن تجربتكم مع الحبيبين: القرآن ورمضان؟ - علاقتي بالقرآن الكريم ليست موسمية، وهو معي دائما، وفي كل حين، ولكنه في شهر رمضان يبدو أكثر قربا، ولذلك فإنني أحرص في كل عام أن تكون لي صلة بكتاب معين من كتب التفسير الكثيرة، سواء القديمة منها أو الحديثة، وقد أمضيت هذا الشهر الفضيل في سنوات سابقة مع عدد من هذه التفاسير، أذكر منها تفسير الإمام أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري المعروف ب(الكشاف)، وكذا تفسير القرطبي، وعدد من التفاسير والدراسات القرآنية المعاصرة، مثل كتاب الظاهرة القرآنية للمفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي، أو كتب الدكتور مصطفى محمود مثل كتاب (القرآن كائن حي)، أو كتاب (علم نفس قرآني جديد)، وغيرها من كتبه في هذا السياق، أو كتاب (النص القرآني وآفاق الكتابة) لعلي أحمد سعيد أدونيس، أو كتاب (في ظلال القرآن) والذي يعد أهم كتاب للكاتب والناقد والمفكر العظيم سيد قطب، ولسيد قطب أيضا كتابان آخران، أستعيد قراءتهما في مثل هذه المناسبات، وهما كتاب (التصوير الفني في القرآن)، و(مشاهد القيامة في القرآن)، فهما من أجمل ما كتب من الدراسات عن القرآن الكريم. ومن حسن حظنا أن المكتبة العربية عامرة بما يستهوي الأرواح، من كتب في هذا المجال، لكن الانشغال ببعض المهام وضيق الوقت يبعدان البعض منا عن هذا المتاح المتاح الجميل.
* أذا كان شهر رمضان موسم لصفاء الروح وشفافية الوجدان، فإن ليلة القدر –دون شك- تمثل الذروة في هذه الشفافية وذلك الصفاء.. فما الذي يمكن قوله عن هذه الليلة المباركة؟ - للناس مع ليلة القدر مواقف وتصورات، وبقدر ما تثير أحاسيسي ومشاعري تصورات العامة عن ليلة القدر فإنها بالنسبة لي نافذة وطاقة روحية مفتوحة باستمرار على عوالم الخير والمحبة والجمال، وسواء كانت ليلة واحدة أو مجموعة ليالٍ؛ فإنها من وجهة نظري أيضا تظل مفتوحة من الأزل وإلى الأبد لطالبي الرحمة والمغفرة والرضوان، ولمن أذنبوا في حق الله سبحانه وتعالى، وفي حق أنفسهم، وفي حق الآخرين، وفي حق أوطانهم، فما أروع الإسلام الذي جعل الصلة بين الخالق والمخلوق قائمة في كل لحظة من لحظات الزمن الجاري، وما أعظم القرآن الكريم وهو يشعرنا بمعية الله الدائمة لنا، كما في تلك الآية القرآنية من سورة الحديد، التي يقول فيها الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، صدق الله العظيم.