عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    الشهادة منحة إلهية    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    في وقفات شعبية وفاءً لدماء الشهداء واستمرارًا في التعبئة والجهوزية..قبائل اليمن تؤكد الوقوف في وجه قوى الطاغوت والاستكبار العالمي    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    الدوري الانكليزي: مان سيتي يسترجع امجاد الماضي بثلاثية مدوية امام ليفربول    نجاة برلماني من محاولة اغتيال في تعز    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    الأهلي يتوج بلقب بطل كأس السوبر المصري على حساب الزمالك    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    وزير الصحة: نعمل على تحديث أدوات الوزارة المالية والإدارية ورفع كفاءة الإنفاق    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    رئيس بنك نيويورك "يحذر": تفاقم فقر الأمريكيين قد يقود البلاد إلى ركود اقتصادي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    بن ماضي يكرر جريمة الأشطل بهدم الجسر الصيني أول جسور حضرموت (صور)    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    علموا أولادكم أن مصر لم تكن يوم ارض عابرة، بل كانت ساحة يمر منها تاريخ الوحي.    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    محافظ المهرة.. تمرد وفساد يهددان جدية الحكومة ويستوجب الإقالة والمحاسبة    أبناء الحجرية في عدن.. إحسان الجنوب الذي قوبل بالغدر والنكران    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    عين الوطن الساهرة (1)    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    نائب وزير الشباب يؤكد المضي في توسيع قاعدة الأنشطة وتنفيذ المشاريع ذات الأولوية    الدوري الانكليزي الممتاز: تشيلسي يعمق جراحات وولفرهامبتون ويبقيه بدون اي فوز    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    قراءة تحليلية لنص "رجل يقبل حبيبته" ل"أحمد سيف حاشد"    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأيام الأخيرة في حياة الشيباني
أيام الخطو نحو نافذة النور!
نشر في الصحوة نت يوم 08 - 01 - 2014

لم أعلم بمرض الأستاذ عبد الملك الشيباني رحمه الله إلا بعد فترة، فذهبت إليه خجولاً معتذراً والعرق يتصبّب مني، لكنه كان يخفف عني، مؤكداً على يقينه من أنني لا أعلم.
ومن هنا رافقته في الأيام الأخيرة من حياته بمعدل يومين كل أسبوع، نقضيها مع بعض الأصدقاء في منزله نؤنسه ويُتحفنا من العصر إلى ما بعد العشاء.
وإذا كان المرض يكشف لصاحبه عن معادن الناس، فيعرف فيه الصديق الحقيقي من المزيف، فإن هذا المرض الذي جثم على صدر الأستاذ وأنشب أظفاره في قلبه السليم، فقد أزال الغبار عن المعدن النفيس لهذا الرجل العظيم في بساطته والبسيط في عظمته، وفي هذه المقالة سأضع القارئ الذي لا يعرفه أمام بعض الخصائص التي لاحظتها من جلساتي معه في الأيام الأخيرة التي كان يخطو فيها نحو نافذة النور ونحن لا نشعر.
حرارة القلب وبرودة الجسم:
من كل جلساتي الأخيرة مع الأستاذ اتضح بجلاء الانفصام الشديد بين حرارة قلبه الفياض بالمشاعر والمزدان بالحب والعامر بالعواطف، وبين برودة جسمه، حيث كان حريصاً على إغلاق جميع النوافذ، وتدفئة البيت بالبخور، وذلك بسبب تلف الجزء الأكبر من قلبه، حيث لا يستطيع القيام بكافة وظائفه في إيصال الدم إلى كل الأعضاء، ويبدو أن قلبه المعنوي توسّع على حساب قلبه المادي، حتى أتلف الجزء الأكبر منه!
ولقد تبيّن لنا أن ضعفه في قلبه وقوّته في قلبه، فقد ضعف حتى أنه لم يكن يستطيع صعود الدرج إلا بصعوبة بالغة، وكان قوياً حتى أنه ظل يفيض على الجميع بأرقّ المشاعر، مما جعله يستمر في صعود درج الحب وسلالم التقدير!
لقد كنت لما أجيئ أجد أولاده: (حسين وأحمد ومحمد وعمر...) الذين قدَّهم الله منه، يتوزعون من الباب الخارجي للبيت إلى باب غرفة المكتبة وهي محراب الأستاذ وعيادته كأنهم حرس شرف، غير أنهم لا يعرفون الصرامة، بل تملأ البشاشة وجوههم!
ولشرف محفده، ونبل نجائبه، ورقة طباعه، فقد كان يتأثر إلى حد البكاء لمن يحسنون إليه، حتى أنه بكى عدة مرات نتيجة عناية العديد من الناس به، ابتداء من الأستاذ محمد اليدومي، ومروراً بضابط أردني في مطار عمان قام بدفع العربة التي كانت تحمله عندما انشغل رفيقه ببعض المعاملات، ووصولاً إلى كثيرين ممن اتصلوا به من خارج اليمن وداخله ودعوا له، وكثيرين ممن زاروه، ومن هؤلاء الشيخ حميد عقيل الذي جاء من إب لزيارته في المستشفى، فاستقبله وعانقه باكياً، وكان في الجمعة الأخيرة من حياته مترقباً بحرج خوفاً من زيارة الشيخ حميد له في البيت، فسألناه: لماذا كل ذلك؟ فأجاب: إنها من علامات الساعة أن تلد الأَمَةُ ربّتها!!
وأخبرنا أنه كان يشعر بالخجل الشديد عندما يقول له الشيخ حميد عقيل: يا أستاذي!.. وذكر أنه ذهب ذات مرة لإلقاء محاضرة لبنات مدينة جبلة، وفي آخر المحاضرة سألنه سؤالاً فقهياً، فاستغرب أن بينهن الشيخ حميد ويسألنه هو، فقالت له إحداهن: لقد سألنا الشيخ حميد، فما كان منه إلا أن غضب وغادرهن فوراً، لأنهن يسألنه بعد الشيخ حميد عقيل!!
بهذه العاطفة المتأججة كان يعيش الأستاذ، لكنها ازدادت في مرض موته حتى أنه عندما عرف أن عندي حساسية من البخور ورغم حاجته الشديدة للدفء فقد أمر أبناءه أن يفتحوا النوافذ لخروج الدخان، وكنت كلما أتصل إليه حول أني سآتي لزيارته يقوم بإخلاء الدخان!
بروز ثقافة الشكر وعطاء الكرم:
يبرز بجلاء من تفاعل الأستاذ مع مرضه أنه كريم من طراز نادر، حيث يتضخم إحسان الآخرين عنده، ويتضاءل ما يقدمه للآخرين، فقد كان دائم الثناء على الطبيب الأردني الذي عالجه في الأردن، وعلى الطبيب اللبناني الذي تابع حالته في اليمن، ويثني على الممرضات وعلى الإداريين، ويثني على من رافقه إلى الأردن، وعلى من رافقه في اليمن، وظل يشكر زواره، ولم أسمعه يشكو أحداً لم يزره، ولو من باب العتاب الخفيف كالتثريب، حتى بدا متشبعاً بثقافة الشكر!
وسمعته في هذا السياق يكلم واحداً في الهاتف، ويخبره مفتخراً أنني عنده، وأضاف: نعم لقد زارني الدكتور فؤاد عشرات المرات!!
هكذا تتضخم الحسنات الصغيرة عند الكرماء، مع أنني لم أكن قد زرته إلا بضع مرات، ولا أدري ماذا كان يقول عن تلميذه النجيب أ. عبد الوهاب الميرابي الذي كان من النادر أن يفارقه يوماً طيلة فترة مرضه!
وتجاوز الكرم المعنوي إلى الكرم المادي، فقد أخبرته مازحاً بأن لي عادة مع من أحبهم، وهي أن آخذ منهم النسخة المكررة من أي كتاب في مكتباتهم إن لم تكن عندي، وكنت في أقصى الظروف أطمع بكتاب واحد، فما كان منه إلا أن نظر فوق أحد الأرفف وقال لي: هذا الكتاب عندي منه نسخة أخرى، فنظرت فإذا هو كتاب "فتح الباري" وهو من 14 مجلداً ولم يتركني أخرج من بيته إلا بهذه المجلدات التي أثقلتني بجميله، وهكذا فقد (فتح) الأستاذ خزانة كرمه وأعطاني كتاب (فتح الباري)، فأسأل الله أن (يفتح) له أبواب رحمته وأبواب جنانه ليدخل من أيها يشاء.
ولكرمه كان يعرض علينا العَشاء بعد صلاة المغرب بإلحاح، ومن شدة كرمه واحتفائه بزواره وفرحه بهم فكرت أن أنقل منتدى الفكر الإسلامي الذي أديره يوم الجمعة إلى بيته، لكنني آثرت عدم إرهاق الأستاذ رحمه الله.

عشق الناس والاستئناس بهم:
ما أعرفه أن معظم الناس عندما يمرضون يضيقون بالناس ويحبون الخلوة والهدوء، وإن كان ولابد فإنهم يقبلون زيارات سريعة، أما الأستاذ فقد كان يحتفي بزواره، ويُبرز سعادته بهم، حتى أنني نتيجة إشفاقي عليه كنت أهم بعد صلاة المغرب أن نفارقه وأصدقائي، لكنه أصر على البقاء، مؤكداً سعادته الغامرة بنا، بل ذهب إلى أن اليوم الذي لم يزره ويجلس معه في النهار أحد، فإنه كان يعاني آلامه بالليل!
وعندما حاولت مرة التملص، لخوفي أن يكون ذلك من رقة مشاعر الأستاذ، وأن يؤثر ذلك على قلبه، عارض بقوة، واستشهد بتلميذه ورفيق دربه عبد الوهاب، مؤكداً أنه الناطق الرسمي باسمه!
وكان يسألني عن صحتي، وعندما عرف بعض ما ألمَّ بي أكد أنني أعاني من إصابة بعين، وأصر على أن أتداوى عند أحد من تداوى هو عنده بالقرآن وأثنى عليه كعادته.
وكان عندما لا أذهب إليه يتصل بي للاطمئنان عليّ، أو للتعليق على بعض ما دار من أحاديث في اليوم السابق!

تفاؤل يفلّ الحديد:
كان يُجيد صناعة أحلى العصائر وألذها من الليمون الحامض، حيث ظل يركز نظره على النصف الممتلئ من الكأس، بل على القطرة الواحدة إن كانت فيه!
ولذلك كان واثقاً من مستقبل الأمة المشرق، رغم أنينه لكل هذه الأوجاع، ورؤيته لكل هذه الظلمات المدلهمة، لكنه يلمح الفجر من خلفها. وعليه فقد استمر يعمل كل ما يستطيع، حتى أنه في أحد هذه الأيام المؤلمة زاره دكتور من صنعاء ونحن عنده ليكتب له تقديماً لرسالته التي نال بها درجة الدكتوراه عن "اليمن الكبير" فكتبها أو أملاها!
ورغم أن المرض أقعده عن أي عمل، لكنه كان يستطيع الكلام، فكان يتكلم، حتى أنني طلبت منه قبل موته بيوم أن يحدثنا عن انطباعاته التي سمعتها منه من قبل عن زياراته للصين ولأمريكا، وأخبرنا عن الكثير من المواقف والقصص التي تجمع بين الفائدة والمتعة.
في ذلك اليوم ذهبت مع بعض الأصدقاء ومنهم ثلاثة من أساتذة قسم التاريخ بجامعة تعز، الذين تعرفوا عليه لأول مرة وآخر مرة، لأنه مات في ليل اليوم التالي، ومع ذلك فقد تحدثنا عن أشياء كثيرة، ومنها مشروع مستقبلي للمساهمة في تنقية التاريخ الإسلامي مما علق به من شوائب، وغربلته من المساوئ التي ألصقت به.
وبسبب عمق معرفته ودفء مشاعره فقد تعلق به هؤلاء الزملاء لدرجة أنني في أثناء تشييع جنازته رأيت أحد هؤلاء وهو الدكتور سعيد اسكندر يبكي بحرقة كأنه يعرفه منذ زمن بعيد، وقال لي وهو يكفكف دموعه: عرفتنا به بالأمس ومات اليوم!!
وكان في هذه الجلسة قد كلمنا عن مشاريعه المستقبلية، ومنها استكمال كتاب (نقد رجال الطبري) والذي كان قد أعده ليكون رسالة ماجستير من قبل لكن قلة ذات اليد منعته من ذلك!
وكنت أخطط لزيارة تركيا التي كان حريصاً على القيام بها معي، لمعرفة مشروعها الحضاري عن كثب، وكنا قد اتفقنا مع أحد الأساتذة الكرام على زيارة جزيرة سقطرى في فبراير القادم بعد تماثله للشفاء!
وهكذا مات الأستاذ وهو منتصب كالنخلة، حيث أحنى رأسه قليلاً لعاصفة المرض، ظاناً أنها سحابة صيف، لكنها أخذته إلى ربه الكريم فنسأله أن يكرمه.

الضحك إلى الرمق الأخير:
ولأنه شديد الإيمان بالله، وعظيم الأمل به، وكثير التفاؤل في المستقبل ، فقد ظل يضحك من طُرَف الآخرين ويُضحك الآخرين بطرائفه ، هذا كان ديدننا معه طيلة أيام مرضه، حيث لم يمتنع عن الابتسام ولم يكف عن الضحك إلى آخر رمق من حياته !
لقد كان طبيباً نطاسياً في مكافحة حموضة الحياة بحبوب (الطُّرَف) وكبسولات (النُّكت) وشراب (الضحك) الذي لم يمتنع عنه يوماً لأنه مثل الماء ، ولاسيما في الأيام الأخيرة من عمره ، حيث ينبغي للمؤمن أن يكون أقوى في حُسن الظن بالله.
ولم يفتأ الأستاذ يواجه تجهم الحوادث بطرائف الأحداث ، حتى امتلك خبرة كبيرة في تخلية القلب من الهموم والأتراح وتحليته بالأحلام والأفراح، وتزويده بالمُلَح والنوادر حتى لا يكل أويملّ !.
ولمعرفتي بهذه الطبيعة في الأستاذ ، فقد حرصت على أن أصطحب في تلك الزيارات أحد أصدقائي الظرفاء فأُعجب به أيما إعجاب وارتاح إليه أيما راحة ، حتى كانا يتنافسان في رواية وصناعة المواقف الطريفة والمضحكة !
ولذهاب هذا الأخ الظريف بعيداً في طرائفه عموماً ، وحتى أشارك في صناعة البهجة في محراب الأستاذ بحيث لا تظلله كآبة المرض فقد أخبرت الأستاذ أنني عندما كنت أسمعه يقول: نريد الطبيب المسلم والمهندس المسلم .. والسفيه المسلم !!.. كنت أتساءل: كيف يكون المسلم سفيهاً؟ وكيف يريده هذا الأستاذ الفاضل؟..
بعدها بسنوات تعرفت على هذا الأخ الظريف وسمعت نُكَته التي غالباً ما تنهل من المقولة الشائعة: "إذا خلونا صبَوْنا" ، عندها قلت: الآن عرفت ماذا يقصد الأستاذ بالسفيه المسلم!!.
فضحك الأستاذ حتى بدت نواجذه ، وذكَّرته ببعض المواقف الطريفة ، ومنها ما أخبرني به صديق لي يدعى قاسم السماوي ، حيث ذكر أنه كان ذات مرة واقفاً على الطريق في مدينة إب ينتظر سيارة تنقله إلى قريته في مديرية السياني محافظة إب وكان يلبس بدلة ضابط مرور، فمرّ الأستاذ عبد الملك الشيباني بسيارته ومعه الأستاذ أحمد القميري فرأياه فرثيا لحاله وأركباه السيارة دون أن يعرفاه ، فاقترح هذا الأخ أن يتعارفوا، وهو كان يعرفهما، ولما كان ذلك في عهد الحزبية السرية، فقد أورد كل منهما اسماً عاماً مثل: عبد الله عبد الرحمن، وعندما جاء دور الأخ قاسم السماوي قال عن نفسه: أخوكم في الله عبد الملك الشيباني! فانتفض الأستاذ وانفجر ضاحكاً وأدرك أن السماوي يعرفهما!
وبعد سنوات طويلة جاء عندي الأخ قاسم السماوي حيث كان معزوماً على العشاء في ليلة رمضانية قبل بضع سنوات ، فاتصلت بالأستاذ عبد الملك ودعوته للعشاء على شرف الضيف الذي جاء من إب واسمه عبد الملك الشيباني ، فضحك وأدرك على الفور أنه قاسم السماوي!!
عندما رويت هذا الموقف أمام الأستاذ قبل موته بيوم واحد ضحك كعادته، وصحح بعض التفاصيل ، وأخبرني أن الاسمين اللذين عرفا نفسيهما بهما كانا اسميهما بالفعل عندما كانا في هُكمان أيام حروب ما كانت تسمى بالجبهة الوطنية.
المهم أننا تنقلنا مع الأستاذ خلال بضع ساعات من الجد إلى الهزل ، ومن التاريخ إلى الأدب، ومن داخل اليمن إلى خارجه ، فامتلأت الجلسة بالفوائد والمتعة والضحك، حتى كان الأستاذ يضع يده فوق قلبه من شدة الضحك!
وفي الثامنة مساء غادرناه وهو متأثر لذهابنا كأنه كان يحس بأنه سيفارقنا ، وأن هذا آخر لقاء لنا معه ، والعجيب أن الزملاء الذين جاؤوا أول مرة سلموا عليه بحرارة أكثر من حرارة سلام الوصول ، ولما سألت أحدهم عن السبب ، قال: بعدما عرفت أن هذا الأستاذ كنز مغمور أدركت أنني لم أنصفه في السلام عند الوصول!
ولأنهم سلموا عليه فقد سلمت عليه وصافحته، مع ثقتي أنني سألتقيه قريباً، إذ لم يكن يعرف أحد أن حالته خطيرة جداً ، بما فيهم أنا بل حتى أسرته ، وكان سلام الوداع الأخير ، لهذا كانت الصدمة كبيرة على أسرته !
اللهم إنك جعلت لمن تبسم في وجه أخيه صدقة ، وهذا الرجل لم يبتسم فقط ، لكنه أضحك الملايين ، فأضحِكْهُ يا الله في الفردوس الأعلى من الجِنان ، فإن أعماله تؤهله للولوج إلى مستقر رحمتك، وخزينة فضلك، ودار كرمك وكرامتك.



خارطة فكر الشيباني في عناوين كتبه (1)

لإدراكه أن موت الفرد في سبيل الله هو دفعة قوية للمجتمع لكي يحي في سبيل الله صانعاً للحياة ، فقد دلف الأستاذ عبدالملك الشيباني في تأليفه لكتبه ومهمته الخطيرة في صناعة العقول من بوابة (شهيد القرآن) عبده محمد المخلافي الذي استنقذه من وهدة المراهقة، ولأن الفرد قد يصبح أمة فقد انتقل من الحديث عن حياة المخلافي التي كانت حبة أنبتت سبع سنابل إلى الحديث عن السنابل في (مسيرة الإصلاح) المباركة ، ومن المؤكد أن هذه المسيرة الإصلاحية من لدن (الرجل الأمة معاذ بن جبل) ومستنيرة بنجوم (صحابة اليمن) وممتدة إلى (معالم الإصلاح في حياة البيحاني) ، الداعية المصلح ولهذا فقد أبرز الأستاذ الشيباني (اليمن ومكانتها في الكتاب والسنة) في جزئين، وحتى لا يتشكك متشكك بالأحاديث التي مدحت اليمن وأثنت على اليمنيين فقد تولى (تخريج أحاديث فضل اليمن وأهله) وفق قواعد علوم الحديث المتفق عليها وليظهر أن أكثرها صحيحة أو حسنة.
ولإدراكه أن الإصلاح حركة إسلامية لا حزباً عصبوياً ضيقاً، فقد وضح أنه ضد (العصبية) الضيقة وأنه يستفيد من سائر منابع (العلم والعلماء) ثم أنه من ناحية التوجه يستهدف إصلاح (حاضر العالم الإسلامي) كله ، بحسب استطاعته، لأن المسلمين كالجسم الواحد.
ولمعرفته بأن الانتماء إلى حركة إسلامية معاصرة هو تكليف أكثر من كونه تشريفاً فقد أبرز أهمية (الجهاد المالي) في توفير متطلبات بناء الرجال ، ومن ذلك تلبية كل متطلبات (فن الرحلات) المادية والمعنوية ، حتى تساهم بفاعلية في صياغة الرجال.
ولم يفتأ أبداً يبشر أمته بأن (الظهور الإسلامي فجر دائم وشروق مستمر)، ولم يكف عن الفخر بالنموذج الأكمل شروقاً على الإطلاق، وهو العهد النبوي الذي كان يستمد من القرآن مباشرة ، مجسداً كل تعاليمه السامية في مناشط راقية، ولهذا أبرز (السيرة في ظلال القرآن) حتى تكون زاداً للمقتدين والمتأسين.
(1) ما بين قوسين هو عناوين الكتب المطبوعة للأستاذ عبدالملك الشيباني رحمه الله.
*أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز
رئيس منتدى الفكر الإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.