الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    الطيران الأمريكي يجدد قصف ميناء نفطي غرب اليمن    مسلحون يحاصرون مستشفى بصنعاء والشرطة تنشر دورياتها في محيط المستشفى ومداخله    سريع يعلن استهداف يافا بفلسطين المحتلة    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    قائد الاحتلال اليمني في سيئون.. قواتنا حررت حضرموت من الإرهاب    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأيام الأخيرة في حياة الشيباني
أيام الخطو نحو نافذة النور!
نشر في الصحوة نت يوم 08 - 01 - 2014

لم أعلم بمرض الأستاذ عبد الملك الشيباني رحمه الله إلا بعد فترة، فذهبت إليه خجولاً معتذراً والعرق يتصبّب مني، لكنه كان يخفف عني، مؤكداً على يقينه من أنني لا أعلم.
ومن هنا رافقته في الأيام الأخيرة من حياته بمعدل يومين كل أسبوع، نقضيها مع بعض الأصدقاء في منزله نؤنسه ويُتحفنا من العصر إلى ما بعد العشاء.
وإذا كان المرض يكشف لصاحبه عن معادن الناس، فيعرف فيه الصديق الحقيقي من المزيف، فإن هذا المرض الذي جثم على صدر الأستاذ وأنشب أظفاره في قلبه السليم، فقد أزال الغبار عن المعدن النفيس لهذا الرجل العظيم في بساطته والبسيط في عظمته، وفي هذه المقالة سأضع القارئ الذي لا يعرفه أمام بعض الخصائص التي لاحظتها من جلساتي معه في الأيام الأخيرة التي كان يخطو فيها نحو نافذة النور ونحن لا نشعر.
حرارة القلب وبرودة الجسم:
من كل جلساتي الأخيرة مع الأستاذ اتضح بجلاء الانفصام الشديد بين حرارة قلبه الفياض بالمشاعر والمزدان بالحب والعامر بالعواطف، وبين برودة جسمه، حيث كان حريصاً على إغلاق جميع النوافذ، وتدفئة البيت بالبخور، وذلك بسبب تلف الجزء الأكبر من قلبه، حيث لا يستطيع القيام بكافة وظائفه في إيصال الدم إلى كل الأعضاء، ويبدو أن قلبه المعنوي توسّع على حساب قلبه المادي، حتى أتلف الجزء الأكبر منه!
ولقد تبيّن لنا أن ضعفه في قلبه وقوّته في قلبه، فقد ضعف حتى أنه لم يكن يستطيع صعود الدرج إلا بصعوبة بالغة، وكان قوياً حتى أنه ظل يفيض على الجميع بأرقّ المشاعر، مما جعله يستمر في صعود درج الحب وسلالم التقدير!
لقد كنت لما أجيئ أجد أولاده: (حسين وأحمد ومحمد وعمر...) الذين قدَّهم الله منه، يتوزعون من الباب الخارجي للبيت إلى باب غرفة المكتبة وهي محراب الأستاذ وعيادته كأنهم حرس شرف، غير أنهم لا يعرفون الصرامة، بل تملأ البشاشة وجوههم!
ولشرف محفده، ونبل نجائبه، ورقة طباعه، فقد كان يتأثر إلى حد البكاء لمن يحسنون إليه، حتى أنه بكى عدة مرات نتيجة عناية العديد من الناس به، ابتداء من الأستاذ محمد اليدومي، ومروراً بضابط أردني في مطار عمان قام بدفع العربة التي كانت تحمله عندما انشغل رفيقه ببعض المعاملات، ووصولاً إلى كثيرين ممن اتصلوا به من خارج اليمن وداخله ودعوا له، وكثيرين ممن زاروه، ومن هؤلاء الشيخ حميد عقيل الذي جاء من إب لزيارته في المستشفى، فاستقبله وعانقه باكياً، وكان في الجمعة الأخيرة من حياته مترقباً بحرج خوفاً من زيارة الشيخ حميد له في البيت، فسألناه: لماذا كل ذلك؟ فأجاب: إنها من علامات الساعة أن تلد الأَمَةُ ربّتها!!
وأخبرنا أنه كان يشعر بالخجل الشديد عندما يقول له الشيخ حميد عقيل: يا أستاذي!.. وذكر أنه ذهب ذات مرة لإلقاء محاضرة لبنات مدينة جبلة، وفي آخر المحاضرة سألنه سؤالاً فقهياً، فاستغرب أن بينهن الشيخ حميد ويسألنه هو، فقالت له إحداهن: لقد سألنا الشيخ حميد، فما كان منه إلا أن غضب وغادرهن فوراً، لأنهن يسألنه بعد الشيخ حميد عقيل!!
بهذه العاطفة المتأججة كان يعيش الأستاذ، لكنها ازدادت في مرض موته حتى أنه عندما عرف أن عندي حساسية من البخور ورغم حاجته الشديدة للدفء فقد أمر أبناءه أن يفتحوا النوافذ لخروج الدخان، وكنت كلما أتصل إليه حول أني سآتي لزيارته يقوم بإخلاء الدخان!
بروز ثقافة الشكر وعطاء الكرم:
يبرز بجلاء من تفاعل الأستاذ مع مرضه أنه كريم من طراز نادر، حيث يتضخم إحسان الآخرين عنده، ويتضاءل ما يقدمه للآخرين، فقد كان دائم الثناء على الطبيب الأردني الذي عالجه في الأردن، وعلى الطبيب اللبناني الذي تابع حالته في اليمن، ويثني على الممرضات وعلى الإداريين، ويثني على من رافقه إلى الأردن، وعلى من رافقه في اليمن، وظل يشكر زواره، ولم أسمعه يشكو أحداً لم يزره، ولو من باب العتاب الخفيف كالتثريب، حتى بدا متشبعاً بثقافة الشكر!
وسمعته في هذا السياق يكلم واحداً في الهاتف، ويخبره مفتخراً أنني عنده، وأضاف: نعم لقد زارني الدكتور فؤاد عشرات المرات!!
هكذا تتضخم الحسنات الصغيرة عند الكرماء، مع أنني لم أكن قد زرته إلا بضع مرات، ولا أدري ماذا كان يقول عن تلميذه النجيب أ. عبد الوهاب الميرابي الذي كان من النادر أن يفارقه يوماً طيلة فترة مرضه!
وتجاوز الكرم المعنوي إلى الكرم المادي، فقد أخبرته مازحاً بأن لي عادة مع من أحبهم، وهي أن آخذ منهم النسخة المكررة من أي كتاب في مكتباتهم إن لم تكن عندي، وكنت في أقصى الظروف أطمع بكتاب واحد، فما كان منه إلا أن نظر فوق أحد الأرفف وقال لي: هذا الكتاب عندي منه نسخة أخرى، فنظرت فإذا هو كتاب "فتح الباري" وهو من 14 مجلداً ولم يتركني أخرج من بيته إلا بهذه المجلدات التي أثقلتني بجميله، وهكذا فقد (فتح) الأستاذ خزانة كرمه وأعطاني كتاب (فتح الباري)، فأسأل الله أن (يفتح) له أبواب رحمته وأبواب جنانه ليدخل من أيها يشاء.
ولكرمه كان يعرض علينا العَشاء بعد صلاة المغرب بإلحاح، ومن شدة كرمه واحتفائه بزواره وفرحه بهم فكرت أن أنقل منتدى الفكر الإسلامي الذي أديره يوم الجمعة إلى بيته، لكنني آثرت عدم إرهاق الأستاذ رحمه الله.

عشق الناس والاستئناس بهم:
ما أعرفه أن معظم الناس عندما يمرضون يضيقون بالناس ويحبون الخلوة والهدوء، وإن كان ولابد فإنهم يقبلون زيارات سريعة، أما الأستاذ فقد كان يحتفي بزواره، ويُبرز سعادته بهم، حتى أنني نتيجة إشفاقي عليه كنت أهم بعد صلاة المغرب أن نفارقه وأصدقائي، لكنه أصر على البقاء، مؤكداً سعادته الغامرة بنا، بل ذهب إلى أن اليوم الذي لم يزره ويجلس معه في النهار أحد، فإنه كان يعاني آلامه بالليل!
وعندما حاولت مرة التملص، لخوفي أن يكون ذلك من رقة مشاعر الأستاذ، وأن يؤثر ذلك على قلبه، عارض بقوة، واستشهد بتلميذه ورفيق دربه عبد الوهاب، مؤكداً أنه الناطق الرسمي باسمه!
وكان يسألني عن صحتي، وعندما عرف بعض ما ألمَّ بي أكد أنني أعاني من إصابة بعين، وأصر على أن أتداوى عند أحد من تداوى هو عنده بالقرآن وأثنى عليه كعادته.
وكان عندما لا أذهب إليه يتصل بي للاطمئنان عليّ، أو للتعليق على بعض ما دار من أحاديث في اليوم السابق!

تفاؤل يفلّ الحديد:
كان يُجيد صناعة أحلى العصائر وألذها من الليمون الحامض، حيث ظل يركز نظره على النصف الممتلئ من الكأس، بل على القطرة الواحدة إن كانت فيه!
ولذلك كان واثقاً من مستقبل الأمة المشرق، رغم أنينه لكل هذه الأوجاع، ورؤيته لكل هذه الظلمات المدلهمة، لكنه يلمح الفجر من خلفها. وعليه فقد استمر يعمل كل ما يستطيع، حتى أنه في أحد هذه الأيام المؤلمة زاره دكتور من صنعاء ونحن عنده ليكتب له تقديماً لرسالته التي نال بها درجة الدكتوراه عن "اليمن الكبير" فكتبها أو أملاها!
ورغم أن المرض أقعده عن أي عمل، لكنه كان يستطيع الكلام، فكان يتكلم، حتى أنني طلبت منه قبل موته بيوم أن يحدثنا عن انطباعاته التي سمعتها منه من قبل عن زياراته للصين ولأمريكا، وأخبرنا عن الكثير من المواقف والقصص التي تجمع بين الفائدة والمتعة.
في ذلك اليوم ذهبت مع بعض الأصدقاء ومنهم ثلاثة من أساتذة قسم التاريخ بجامعة تعز، الذين تعرفوا عليه لأول مرة وآخر مرة، لأنه مات في ليل اليوم التالي، ومع ذلك فقد تحدثنا عن أشياء كثيرة، ومنها مشروع مستقبلي للمساهمة في تنقية التاريخ الإسلامي مما علق به من شوائب، وغربلته من المساوئ التي ألصقت به.
وبسبب عمق معرفته ودفء مشاعره فقد تعلق به هؤلاء الزملاء لدرجة أنني في أثناء تشييع جنازته رأيت أحد هؤلاء وهو الدكتور سعيد اسكندر يبكي بحرقة كأنه يعرفه منذ زمن بعيد، وقال لي وهو يكفكف دموعه: عرفتنا به بالأمس ومات اليوم!!
وكان في هذه الجلسة قد كلمنا عن مشاريعه المستقبلية، ومنها استكمال كتاب (نقد رجال الطبري) والذي كان قد أعده ليكون رسالة ماجستير من قبل لكن قلة ذات اليد منعته من ذلك!
وكنت أخطط لزيارة تركيا التي كان حريصاً على القيام بها معي، لمعرفة مشروعها الحضاري عن كثب، وكنا قد اتفقنا مع أحد الأساتذة الكرام على زيارة جزيرة سقطرى في فبراير القادم بعد تماثله للشفاء!
وهكذا مات الأستاذ وهو منتصب كالنخلة، حيث أحنى رأسه قليلاً لعاصفة المرض، ظاناً أنها سحابة صيف، لكنها أخذته إلى ربه الكريم فنسأله أن يكرمه.

الضحك إلى الرمق الأخير:
ولأنه شديد الإيمان بالله، وعظيم الأمل به، وكثير التفاؤل في المستقبل ، فقد ظل يضحك من طُرَف الآخرين ويُضحك الآخرين بطرائفه ، هذا كان ديدننا معه طيلة أيام مرضه، حيث لم يمتنع عن الابتسام ولم يكف عن الضحك إلى آخر رمق من حياته !
لقد كان طبيباً نطاسياً في مكافحة حموضة الحياة بحبوب (الطُّرَف) وكبسولات (النُّكت) وشراب (الضحك) الذي لم يمتنع عنه يوماً لأنه مثل الماء ، ولاسيما في الأيام الأخيرة من عمره ، حيث ينبغي للمؤمن أن يكون أقوى في حُسن الظن بالله.
ولم يفتأ الأستاذ يواجه تجهم الحوادث بطرائف الأحداث ، حتى امتلك خبرة كبيرة في تخلية القلب من الهموم والأتراح وتحليته بالأحلام والأفراح، وتزويده بالمُلَح والنوادر حتى لا يكل أويملّ !.
ولمعرفتي بهذه الطبيعة في الأستاذ ، فقد حرصت على أن أصطحب في تلك الزيارات أحد أصدقائي الظرفاء فأُعجب به أيما إعجاب وارتاح إليه أيما راحة ، حتى كانا يتنافسان في رواية وصناعة المواقف الطريفة والمضحكة !
ولذهاب هذا الأخ الظريف بعيداً في طرائفه عموماً ، وحتى أشارك في صناعة البهجة في محراب الأستاذ بحيث لا تظلله كآبة المرض فقد أخبرت الأستاذ أنني عندما كنت أسمعه يقول: نريد الطبيب المسلم والمهندس المسلم .. والسفيه المسلم !!.. كنت أتساءل: كيف يكون المسلم سفيهاً؟ وكيف يريده هذا الأستاذ الفاضل؟..
بعدها بسنوات تعرفت على هذا الأخ الظريف وسمعت نُكَته التي غالباً ما تنهل من المقولة الشائعة: "إذا خلونا صبَوْنا" ، عندها قلت: الآن عرفت ماذا يقصد الأستاذ بالسفيه المسلم!!.
فضحك الأستاذ حتى بدت نواجذه ، وذكَّرته ببعض المواقف الطريفة ، ومنها ما أخبرني به صديق لي يدعى قاسم السماوي ، حيث ذكر أنه كان ذات مرة واقفاً على الطريق في مدينة إب ينتظر سيارة تنقله إلى قريته في مديرية السياني محافظة إب وكان يلبس بدلة ضابط مرور، فمرّ الأستاذ عبد الملك الشيباني بسيارته ومعه الأستاذ أحمد القميري فرأياه فرثيا لحاله وأركباه السيارة دون أن يعرفاه ، فاقترح هذا الأخ أن يتعارفوا، وهو كان يعرفهما، ولما كان ذلك في عهد الحزبية السرية، فقد أورد كل منهما اسماً عاماً مثل: عبد الله عبد الرحمن، وعندما جاء دور الأخ قاسم السماوي قال عن نفسه: أخوكم في الله عبد الملك الشيباني! فانتفض الأستاذ وانفجر ضاحكاً وأدرك أن السماوي يعرفهما!
وبعد سنوات طويلة جاء عندي الأخ قاسم السماوي حيث كان معزوماً على العشاء في ليلة رمضانية قبل بضع سنوات ، فاتصلت بالأستاذ عبد الملك ودعوته للعشاء على شرف الضيف الذي جاء من إب واسمه عبد الملك الشيباني ، فضحك وأدرك على الفور أنه قاسم السماوي!!
عندما رويت هذا الموقف أمام الأستاذ قبل موته بيوم واحد ضحك كعادته، وصحح بعض التفاصيل ، وأخبرني أن الاسمين اللذين عرفا نفسيهما بهما كانا اسميهما بالفعل عندما كانا في هُكمان أيام حروب ما كانت تسمى بالجبهة الوطنية.
المهم أننا تنقلنا مع الأستاذ خلال بضع ساعات من الجد إلى الهزل ، ومن التاريخ إلى الأدب، ومن داخل اليمن إلى خارجه ، فامتلأت الجلسة بالفوائد والمتعة والضحك، حتى كان الأستاذ يضع يده فوق قلبه من شدة الضحك!
وفي الثامنة مساء غادرناه وهو متأثر لذهابنا كأنه كان يحس بأنه سيفارقنا ، وأن هذا آخر لقاء لنا معه ، والعجيب أن الزملاء الذين جاؤوا أول مرة سلموا عليه بحرارة أكثر من حرارة سلام الوصول ، ولما سألت أحدهم عن السبب ، قال: بعدما عرفت أن هذا الأستاذ كنز مغمور أدركت أنني لم أنصفه في السلام عند الوصول!
ولأنهم سلموا عليه فقد سلمت عليه وصافحته، مع ثقتي أنني سألتقيه قريباً، إذ لم يكن يعرف أحد أن حالته خطيرة جداً ، بما فيهم أنا بل حتى أسرته ، وكان سلام الوداع الأخير ، لهذا كانت الصدمة كبيرة على أسرته !
اللهم إنك جعلت لمن تبسم في وجه أخيه صدقة ، وهذا الرجل لم يبتسم فقط ، لكنه أضحك الملايين ، فأضحِكْهُ يا الله في الفردوس الأعلى من الجِنان ، فإن أعماله تؤهله للولوج إلى مستقر رحمتك، وخزينة فضلك، ودار كرمك وكرامتك.



خارطة فكر الشيباني في عناوين كتبه (1)

لإدراكه أن موت الفرد في سبيل الله هو دفعة قوية للمجتمع لكي يحي في سبيل الله صانعاً للحياة ، فقد دلف الأستاذ عبدالملك الشيباني في تأليفه لكتبه ومهمته الخطيرة في صناعة العقول من بوابة (شهيد القرآن) عبده محمد المخلافي الذي استنقذه من وهدة المراهقة، ولأن الفرد قد يصبح أمة فقد انتقل من الحديث عن حياة المخلافي التي كانت حبة أنبتت سبع سنابل إلى الحديث عن السنابل في (مسيرة الإصلاح) المباركة ، ومن المؤكد أن هذه المسيرة الإصلاحية من لدن (الرجل الأمة معاذ بن جبل) ومستنيرة بنجوم (صحابة اليمن) وممتدة إلى (معالم الإصلاح في حياة البيحاني) ، الداعية المصلح ولهذا فقد أبرز الأستاذ الشيباني (اليمن ومكانتها في الكتاب والسنة) في جزئين، وحتى لا يتشكك متشكك بالأحاديث التي مدحت اليمن وأثنت على اليمنيين فقد تولى (تخريج أحاديث فضل اليمن وأهله) وفق قواعد علوم الحديث المتفق عليها وليظهر أن أكثرها صحيحة أو حسنة.
ولإدراكه أن الإصلاح حركة إسلامية لا حزباً عصبوياً ضيقاً، فقد وضح أنه ضد (العصبية) الضيقة وأنه يستفيد من سائر منابع (العلم والعلماء) ثم أنه من ناحية التوجه يستهدف إصلاح (حاضر العالم الإسلامي) كله ، بحسب استطاعته، لأن المسلمين كالجسم الواحد.
ولمعرفته بأن الانتماء إلى حركة إسلامية معاصرة هو تكليف أكثر من كونه تشريفاً فقد أبرز أهمية (الجهاد المالي) في توفير متطلبات بناء الرجال ، ومن ذلك تلبية كل متطلبات (فن الرحلات) المادية والمعنوية ، حتى تساهم بفاعلية في صياغة الرجال.
ولم يفتأ أبداً يبشر أمته بأن (الظهور الإسلامي فجر دائم وشروق مستمر)، ولم يكف عن الفخر بالنموذج الأكمل شروقاً على الإطلاق، وهو العهد النبوي الذي كان يستمد من القرآن مباشرة ، مجسداً كل تعاليمه السامية في مناشط راقية، ولهذا أبرز (السيرة في ظلال القرآن) حتى تكون زاداً للمقتدين والمتأسين.
(1) ما بين قوسين هو عناوين الكتب المطبوعة للأستاذ عبدالملك الشيباني رحمه الله.
*أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز
رئيس منتدى الفكر الإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.