بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - رحمة للعالمين جميعاً، بمن فيهم غير المؤمنين به، وحتى الحيوانات شملتها رحمته، ولا غَرْوَ أن تنتشر دعوته خلال ثلاث وعشرين سنة، فوصلت رسالة الإسلام إلى كل أنحاء العالم المعروف حينذاك، لأنها دعوة للبناء والحرية والكرامة الإنسانية. في مكةالمكرمة واجه الرسول الكريم (ص) وأصحابه أصناف الإعراض والصدّ والعداء والتنكيل، لكنه التزم بتوجيه ربه:" كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة "، وكان لرحمته وصبره أبلغ الأثر في نفوس من عاداه بداية؛ ثم آمن به وصدّق دعوته بعد ذلك، كيف وقد استأذنه ملك الجبال أن يُطْبِقَ الجبال على الذين كذبوه وآذوه، فقال : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً "، وقد كان؛ فالذين ماتوا على عبادة الأوثان جاء من أولادهم من حمل رسالة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها رضي الله عنهم وأرضاهم. وصل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يثرب فسماها [المدينة]، ولم يسمها بلاد المسلمين، أو أرض المهاجرين والأنصار وهي كذلك، لكنه أرادها العاصمة التي تجمع المنضوين تحت راية الدولة المسلمة وإن كانوا من المنافقين وغير المسلمين؛ وقبل أن يتحدث الناس عن الدولة المدنية!! وفي المدينةالمنورة وضع النبي (ص) أسس بناء الدولة وحدد العلاقة بين المسلمين وغيرهم بمن فيهم اليهود، وبصورة واضحة لا لبس فيها، وظل وفياً لعهده حتى كان اليهود هم الذين غدروا وخانوا وتآمروا على دولة الإسلام فأدبهم. وعندما أراد تبليغ دعوة الإسلام خارج الجزيرة العربية بعث الرسل إلى كسرى الفرس وقيصر الروم ومقوقس مصر ونجاشي الحبشة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم للسلام، ويطلب السماح بتبليغ دعوته من دون حرب ولاقتال، وإلى اليمن بعث رسالة كانت سبباً في إسلام أهل اليمن بسلام ومن دون قتال... سيقول قائل بأن رسول الله (ص) قد قاتل المشركين واليهود، وهذا صحيح فليس كل الناس يقبل الحق، ومنهم من يعتدي على الآخرين ظلماً وعدواناً، وهؤلاء لا ينفع معهم منطق الإقناع، ولكن خلال حياته من بعد البعثة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلىٰ.. كم هي الأيام التي قاتل فيها؟ إنها تُعَدّ بأصابع اليدين، وكل حياته كانت سلاماً وأمناً ومحبة وتبليغاً وتوجيهاً وتعليماً، وبياناً للشريعة السمحة، وبناءً للدولة وإصلاحاً للمجتمع، وقد اعترف له بذلك الأعداء والخصوم قبل الصحابة والمحبين. لقد امتدح عليه وآله الصلاة والسلام حلف الفضول في الجاهلية لأن فيه نصرة للمظلوم وحقناً للدماء ودعوة للتعاون بين الناس، وقال: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم؛ ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت "، وجاءت دعوته لتحافظ على الإنسان وكرامته، وحتى في الحرب فقد نهى عن الإجهاز على الأسير أو ترويع النساء، أو الاعتداء على أصحاب الأديرة التي يتعبدون فيها، أو قطع الأشجار فضلاً عن تدمير المساكن والمرافق العامة، ومرت أمامه جنازة فوقف احتراماً لها؛ قالوا له يارسول الله: إنها جنازة يهودي، قال: "أو ليست نفساً؟! " إن جوهر الإسلام المحبة والسلام، وهو ما يجب أن نتعلمه من سيرة المصطفى (ص)، وبنظرة عامة للعالم اليوم سنلحظ بأن الاقتتال والحروب والفتن قليلة ونادرة عند غير المسلمين، بينما هي كثيرة متعددة في بلادنا الإسلامية؛ يتم فيها استباحة الدماء المعصومة، وتُقَطّعُ فيها الأرحام، وتُدَمّر العلاقات الأخوية، وتنشأ الثارات التي يتوارثها الأجيال، حتى أن بعض المسلمين يريد اليوم أن يثأر لمظلومين قد قضوا نحبهم قبل أكثر من ألف عام، وأصبح الظالم والمظلوم بين يدي الحكم العدل جلّ جلاله، وهذا الفهم القاصر والمغلوط والمتخلف للإسلام قد جعل المسلمين في مؤخرة ركب البشرية، وقد عاشوا أئمته سنيناً!! ما أجدر بالمسلمين أن يستلهموا من ذكرى مولد رسولهم - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - معاني المحبة والإخاء والتعايش بينهم وكذلك مع غيرهم من الأمم، ويفهموا بأن الله خلق الإنسان ليعمر الأرض لا ليدمرها، وجعل اختلاف الخلق للتعارف والتكامل وليس للتباعد والصراع، :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. " [email protected]