قلب مفعم بالسماحة ، أعرفه كذلك ، قلما يكتب بضوء الإبداع في صفحات العقول والقلوب ، إنسان مورق في أخوته ينداح كشلالات ضوء ليسرج عتمة القلوب الصدئة ، وعلم رفد واقعنا بأفكاره التي كانت تشرئب في وجداننا ووعينا وساحاتنا المكدودة بأشواق الناس وأوجاعهم ، في صمته اخضرار روح ، ودفقة إنسانية لا تفتر من التحديق في مرايا الواقع المثخن بالألم والمترع بالأسى والخذلان ، يشعل فيك مواقيد الفكرة حين تنضج لتجد نفسها ترفرف لوحدها ، تحلق في المدارات العليا سامقة متسامية بالحب ، شغوفة بالإخاء مولعة ، بالحميمية والتواد والتواشج النبيل ، يسلم عليك بابتسامة وارفة بدفء الحب والإخاء .. أخي الحبيب محمد سماحة .. أتذكر مواجع اختلافنا فيما نكتب ونفكر ونتلمس آلام وآمال ساحاتنا المفتوحة على كل الاحتمالات المضنية ، قل لهم كيف كنا نختلف اختلاف محبة وبحث هادئ عن الحقيقة وسبر لأغوارها ، وحين نتوصل اليها نتواصى بالحق والصبر ونختتم حديثنا بالدعاء بالتوفيق والنجاح ، أتذكر في يوم خميس في عاصمة الوطن صنعاء ، يوم أن حدثتني ذات يوم عن سقوط القيمة ، وانهيار الآدمية ، وغياب المسؤولية ، وشيوع مظاهر الزيف والملق ، حدثتني عن تحول القلوب الرقيقة إلى جدر إسمنتية وفولاذية عن تشيئ القيم في صفحات واقع مجهد بالإذلال والقهر والحرمان ، عن عناصر غريبة ووحشية تبزغ بشكل ملفت ، وتدلف الى ساحات أحلامنا الوردية ، تتحاشاك لمجرد الاقتراب منها ، تفر بجلدها منك دون التفاتة إنسانية ، تلغيك وتصادر فيك روح الانتماء الصادق ، هل تعرفون مع من كنت حينها ؟ مع الصحفي الإنسان ، الذي أدمن جليد الصمت والتأمل ، ليس انعزالا ومواربة عن محيطة كما قد يعتقد البعض ، لكنه تحليق ليرى بأفق أوسع ، ليتفجر منه براكين قضايا الناس والوطن والأمة ، سواء بكتاباته في قضايا المواطنين أو الوطن أو الأمة ، أو من خلال مقالاته الاجتماعية والسياسية والثقافية التي دأب الكتابة عنها حتى صارت همه اليومي .. منذ 9 سنوات تعرفت والتقيت به في الدائرة الإعلامية للتجمع اليمني للإصلاح بالأمانة العامة ، ووجدته ذات يوم مع الزميل عبده عايش في إحدى المطابع يتابعون حينها مجلة النور ، عشت معه بعضا من الوقت في مدينة الحديدة وفي إحدى زياراته العائلية إلى مديرية المراوعة ، إنه الزميل الراحل محمد سماحة ، القلب الموفور بالسماحة والتسامح ، بقيت بيننا علاقة دافئة لكتابة فكرية في ملحق الثورة الثقافي لدى الشاعر محمد القعود ، الذي كان يتقبل شغفنا وولعنا بالكتابة الفكرية .. خرجت في جنازته قيادة الإصلاح يتقدمهم الأستاذ محمد اليدومي ، ونقيب المعلمين الأستاذ محمد الرباحي ، وكذا زملائه في نقابة الصحفيين ، وقيادات الإصلاح ، وعدد من زملائه في مهنتي التدريس والصحافة .. وكل رفاق الدرب ، الذين عاشوا سماحة الزميل محمد سماحة ، وعرفوه عن قرب ، وكانوا معه في الطريق الذي كان صالحا ومصلحا ومستنيرا ومفكرا وصحفيا ووسطيا في كل منطلقاته الفكرية وحتى مقالاته السياسية .. هذا ليس بيان رثاء ، فالموت حق .. والموت قوة ضئيلة إزاء قوة الحياة وزخمها الزاخر بالحياة والأحياء ، كما يقول سيد قطب عليه رحمة الله .. غادرتنا فجأة أيها الحبيب ، ونحن بأمس الحاجة إلى كتاب رأي شجعان ، لا تذل أقلامهم ولا تسقط في براثن الحمق وغوايات الحياة وجواذبها وفتاتها ، ومحمد كان من هذا النوع الرافض للانسحاق أمام رتوش المادة ، أو البقاء في دائرة الفكر الذي يرسف تحت أغلال الحاجة ، مريقا كل شيء جميل مقابل الفتات المتساقط من موائد اللئام .. حين أتذكر محمد سماحة ، استعيد من قعر الذاكرة كل ما هو جميل وسامق عن مهنة التدريس والصحافة ، عن وحدة موضوعية لرسالة الصحفي والمعلم ، لكونها ذات علاقة بالتوعية والتثقيف والتربية ، قلت في نفسي ما قيمة الحياة في قلب الكاتب والأديبا والصحفي والمعلم ، إذا كان قلمه ونصه وشعره وفكره ، يقتات الزيف والوهن والملق والخذلان والخوف والإسفاف كم من هؤلاء رحلوا ولم يذكرهم احد ، لكن محمد كان قلما يرفض الإنحناء ، أمام كل ما من شأنه السقوط والتوهان في مدارك وسحيق المادة وجواذب الذات وأوهاق الحياة ورتوشها البالية .. كنت أود أن ترى يا محمد آثار وجع البعاد على وجوه محبيك ، لا لأنهم غارقين في حزن لفراقك فقط ، بل لجمالية البكاء أمام قلم كان هو الإنسان ، جسد النموذج الاروع للأخ العزيز المحب والحبيب والزميل المتسامح ، ليغيب عنهم فجأة ويفتقدوه في زحمة دروب واقع مفعمة بالحزن والقهر الذي يجثم على ذوي الرأي والقلم في هذه البلاد.. أشلاء دموعي تمزقت على وجنتي وأنا أسمع خبر فاجعة الرحيل ، رحيلك المفاجئ عنا وعن ساحتنا الغاصة في مواجع الخنق والمصادر والسجن والقمع الذي يطال ذوي الرأي الحر والقلم المناهض للظلم .. رحتُ امضغ تمزقي في تلك اللحظة المفعمة بالحزن كالعلك ، بانتظار مواجهة حقيقة وداع ابدي للسماحة التي قرأتها في اتصالاتك ومراجعاتك لي في الهفوات التي كنت أعتبرها فكر ، وتراها أنت رأي لا تتفق معي فيه وينتهي حديثي معك بالدعاء بالتوفيق والنجاح .. كتبت ُ على جبهتي حروفا من الصبر ، وأخرى من اللوعة والحسرة والدعاء لفراقك .. لقد فقدنا بريق البراءة والصدق والحماسة في عينيك يا محمد ؟ نعم وارينا جسدك أيها السماحة والسمح .. لكننا لم نفارقك إخوة سرنا على درب الحرية والتحرر .. لحظة الفراق كانت في خطواتها يتيمة متيمة بعشق أبدي لهدوئك وتواضعك وصمتك وتأملك في الحياة الذي كنت تترجمه إلى أفكار وقناعات تضوع بها سطور صفحات الصحف والمجلات التي كنت تكتب لها ، كنت قصة ضجيج من الصمت.. وبريق طموح وإبداع ، لذا أدركت سر مقولة جبران خليل جبران " إن منبر الإنسانية قلبها الصامت لا عقلها الثرثار .. مطلوب منا جميعا أن نحدد تلاقينا ونقاط عملنا ودروب سيرنا وأشواق أحلامنا وأوشاج أخوتنا ، جميعا نعي حجم كوادرنا وأحبابنا الذين لا يذلهم مال رخيص ، ولا تثنيهم سلطة غاوية بجوا ذب التخلف والانحطاط ، وتغيير جلود قناعاتنا بكل سهولة ويسر لمجرد عارض من الفتات وزيف من الوعود .. كم نحن بحاجة إلى حالة تأمل ونحن نودع أحباب لنا ، أن من نودعهم هؤلاء كانوا حاضرين معنا ، في ساحاتنا المتعددة ، عالقون بالوطن والوطنية حد النخاع ، ومنصهرون في انتمائهم حد الاندماج ، مقتنعون بفكرة التغيير والإصلاح ، وماضون على ذات النهج والمنهجية صرحاء وأحرار ، يجاهرون بالحق بلا خوف ولا تلعثم أو انكفاء .. من ذا لا يعرف هدوء محمد سماحة وصمته وتأمله وسكونه وخجله الأنيق .. أتذكره في الصحوة والنور وملحق الثورة الثقافي وغيرها من الصحف الفكرية والسياسية والأدبية ، محمد سماحة قارئ من الدرجة الأولى هكذا عرفته .. محمد سماحة من مواليد بعدان محافظة إب ، انتقل الى العيش مع عمه في مديرية المراوعة بمحافظة الحديدة الذي درس وتعلم فيها بعد موت والده ، تخرج من معهد المعلمين ، يقول عنه الزميل أحمد الكاف كان مغرما ونحن زملاء في المعاهد العلمية بإصدار المجلات الحائطية ، وكان متمردا على السائد في صياغة وانتقاء مواضيع المجلة وأفكارها التي يكلف بها ، كانت تحتفي بقضايا الوطن ، وشغوفة بأوضاع العالم العربي والإسلامي ، انتقل الى صنعاء بعد تخرجه وتدريسه قرابة العامين في محافظة الحديدة ، والتحاقه بالعمل الصحفي كاتبا في الصحوة وجلة النور وغيرها من الصحف المحلية ، أصبح همي في اللحظة المترعة بوداعك ، كيف بمقدوري تفكيك غيابك المفاجئ عنا .. كيف نجرؤ على توديعك بصمت دون الإشارة إلى حياتك القريبة منا ، ومن قلوبنا ومسارنا وسيرنا وسيرورتنا إلى الغايات النبيلة ، والأهداف السامية .. محمد ، واحد من الزملاء والأصدقاء والإخوة الذين افتقدناهم ونحن ما نكون بأمس الحاجة إليهم ، في زمن يعيش فيه القلم غربة في هذا الوطن ، كنت أتمنى أن تقرأ ما كتبه الزميل عبد السلام محمد ، لتعرف كيف يسير رفقاء دربك في دروب محنة المتاعب ، تحدق بهم تحديات تتناسل حد الكارثة .... أما تزال بيننا يا محمد ؟ أواه إنا لفراقك لمحزونون ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، إنا لله وإن اليه راجعون .