هل ثمة علاقة بين ما يجري الآن في الجنوب من تصعيد متبادل ومصادمات عسكرية تنذر باندلاع حرب ربما تكون أشد عنفاً من تلك التي ظلت مستعرة لست دورات متعاقبة في الشمال، وبين ما جاء في الدراسة الأخيرة لمؤسسة كارنيجي المقربة من دوائر صناعة القرار الأمريكي التي تناولت مؤخراً أزمة الجنوب اليمني والحراك الجنوبي وعدته تحدياً سياسياً أشد خطورة من تحديات القاعدة والحوثيين بحسب الورقة المعنونة ب"التحدي السياسي للحراك الجنوبي في اليمن" وهي الورقة التي أوصت القادة العرب بحض الرئيس صالح على التصدي للتظلمات السياسية للحراك الجنوبي، والدخول في حوار مع قادة الحراك، وأن يكرر أنه سيفي بتعهده بأن يترك منصبه عندما تنتهي ولايته في العام 2013م، وأن يضع حد للتكهنات بأنه ينوي نقل السلطة إلى شخص ما في أسرته، واعتبرت الورقة أنه إذا ما قُدّر لصالح أن يتنحى كجزء من إعادة التفاوض في شأن هيكل الحكومة اليمنية ويرفض تثبيت أحد أفراد عائلته في مكانه فإن ذلك يمكن أن يقنع الحراك الجنوبي بالتخلي عن خططه الانفصالية، وهي دعوة صريحة لتنحي صالح عن السلطة كشرط أساس لتخلي الجنوبيين عن المطالب الانفصالية، لكن يتعين أن نلحظ هنا أن مؤسسة كارنيجي (الأمريكية) لا تمثل صانع القرار الأمريكي ولا سياسته، بالرغم من كونها قريبة منه ويمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل رؤيته للأحداث المهمة في اليمن. على أية حال، ربما يكون الحراك الجنوبي قرأ ما جاء في الدراسة الأمريكية على أنه يمثل تحولاً في السياسة الأمريكية لصالح الحل السلمي الذي لن يتحقق بغير الحوار معه، ما يُفهم منه انتفاء الرغبة الأمريكية في دعم جهود السلطة في فرض الحلول العسكرية على الجنوب، على أن السياسة الأمريكية المعلنة تجاه الأزمة الجنوبية لا تذهب بعيداً عما جاء في دراسة كارنيجي، إذ تؤكد على أهمية الحل السلمي للقضية، واللجوء إلى الحوار لإنهاء المشكلة، بالرغم من كون الأمريكيين يميلون في الوقت الراهن إلى اعتبار القضية الجنوبية شأناً يمنياً داخلياً. على الجانب الآخر، نستطيع أن نفترض أن التصعيد في العنف المتبادل اليوم على الساحة الجنوبية بين طرفي الأزمة والتي وصلت حد استهداف مسئولين كبار في الدولة ومواكب رسمية معززة بحراسات أمنية مشددة يتصل مباشرة بأمرين اثنين، أولهما حلول الذكرى العشرين لقيام الوحدة، وثانيهما، قرار دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي إقرار موعد خليجي عشرين لكرة القدم في موعده ومكانه المحدد في اليمن، ولتوضيح الأمر أكثر، فحلول ذكرى الوحدة هي فرصة مناسبة لكلا الطرفين لتوصيل رسالته، فالسلطة تريد طمأنة أصدقائها بأن الوحدة بخير، وإقناعهم بالتالي بأن حل ملف الجنوب ما يزال بيدها، وأنها قادرة على فرضه، وعليهم فقط أن يمنحوها الفرصة والوقت الكافي لإثبات ذلك على أرض الواقع، والحقيقة أن أصدقاءها الخليجيين منحوها بالفعل تلك الفرصة حين أعلنوا مجدداً موافقتهم على استضافة اليمن لخليجي عشرين الكروي الذي سيقام بمحافظة أبين، على الرغم مما تشهده المحافظة وجميع المحافظات الجنوبية من أوضاع أمنية غير مطمأنة، وبخاصة مع تصاعد أعمال العنف التي وصلت حد الاشتباكات المسلحة مع السلطة، وهنا يتبين سر ذلك الإصرار العجيب الذي أظهرته السلطة في إقامة خليجي عشرين في المحافظات الجنوبية تحديداً! لقد أرادت السلطة اختبار الموقف الخليجي من قضية الوحدة ذاتها، فأي رفض من قبل الخليجيين في إقامة الدوري الخليجي في الجنوب سيعد بمثابة اعتراف منهم بوجود مشكلة جنوبية تعيق إقامة الفعالية، وهو ما قد تفسره السلطة بأنه اعتراف بالقضية الجنوبية من قبل هؤلاء، الأمر الذي سيحرجهم أمام السلطة والشعب اليمني، بينما إقامة الفعالية الكروية في الجنوب سيمثل بحد ذاته عدم اعتراف منهم بالوضع المتأزم في الجنوب، وبأن ما يجري هناك أمر لا يعنيهم في شيء، وسيُنظر إليه على أنه إعلان صريح بوقوفهم إلى جانب الرئيس صالح وتأييدهم للوحدة، وبالتالي فإن اختيار الجنوب لإقامة الدوري الكروي الخليجي لم يكن عبثاً، بل كان مقصوداً بهدف انتزاع موقف سياسي خليجي مناهض لمطالب الحراك وقاطعاً الطريق عليهم بتوقع أية مساندة خليجية لمطالبهم، والخليجيون فهموا بالضبط ما أرادته منهم صنعاء، وحقيقة الاختبار الذي وضُعوا فيه، لذا فقد سارعوا في اجتماعهم الأخير إلى تأكيد وقوفهم إلى جانب اليمن في استضافة الفعالية الرياضية، إذ أن موقف مغاير سيفهم منه ربما شيء آخر، وعلى هذا الأساس فقد كان الدعم الخليجي الكروي لليمن رسالة سياسية بامتياز قُصد منها إثبات حسن النوايا تجاه الوحدة، وإشعار الحراك بأن مطالبه السياسية لن تلقى الدعم أو حتى التعاطف من قبلهم، هذا الأمر حدا بالسلطة لتصعيد لهجتها تجاه الحراك بعد أن أمنّت ظهرها، وضمنت صمت حلفائها الدوليين وغض طرفهم ولو قليلاً عما يحدث، في المقابل سعى الحراك لقلب الصورة، فهو أراد- من خلال تصعيد المواجهات مع السلطات- إيصال رسالة مختلفة مفادها، أنه وبعد عشرين عاماً على الوحدة ليس ثمة إجماع عليها، على الأقل من قبل الشارع الجنوبي الذي مازال يقاوم السلطة في كل الساحات والميادين ويعلن رفضه لها، ويتحمل في سبيل ذلك بطشها وقهرها، وهو مستعد فوق ذلك لبذل المزيد من التضحيات في سبيل قضيته، وبالتالي أراد القول لأولئك الذين يرقبون بحذر خطواته إلى متى ستظلون تكتفون بالمراقبة من بعيد؟ عليكم أن تتخذوا قراركم لأن ما يجري هنا يمس مصالحكم مباشرة، وبيدكم أن تقرروا مع من ستضعون مصالحكم تلك، وكيف ستحافظون عليها؟ لكن الجواب كان حاسماً وصريحاً جداً في تلك الرسالة الكروية التي سجلت هدفاً مباشراً للسلطة في مرمى الحراك، فالأصدقاء الدوليون والإقليميون ما زالوا يراهنون على النظام وعلى قدرته في التعامل مع الملف الجنوبي والخروج منه منتصراً وبأقل الخسائر، ومن المتوقع أن يعي قادة الحراك في الخارج تلك الرسالة جيداً فيحدوا من تعنتهم، ويخفضوا سقف مطالبهم التي لن يقبل بها أحد في الداخل والخارج إذا ظلت محصورة خارج نطاق الوحدة.