مثل اقتحام مليشيا الحركة الحوثية للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014 نقطة الانهيار للدولة اليمنية، وجاءت اتفاقية السلم والشراكة التي وقعتها الأحزاب السياسية لتعزيز تواجد تلك المليشيا في سلطات الدولة. ومع مرور الوقت فرضت المليشيا سلطتها على كل المؤسسات وذهبت بمساعدة المخلوع صالح في التمدد في المحافظات التي تتواجد فيها حاضنة شعبية لهم، وتستعد للانقضاض على باقي المحافظات، فاستقالت الحكومة ورئيس الجمهورية وتم وضعهما تحت الإقامة الجبرية، وأصبحت المليشيا سلطة الأمر الواقع في كل مكان وصلت إليه. تعز ترتب وضعها بعد الانقلاب: في هذا الخضم ذهبت المحافظات التي لم تبسط المليشيا سلطتها فيها بعد لترتب أوضاعها عبر اتفاق القوى السياسية فيها ومن ذلك محافظة تعز - المحافظة الأكثر سكاناً والأكثر تأثيراً في الحياة السياسية والثقافية اليمنية. نجحت تعز في أن تقدم إنموذجاً للتعايش وقبول الآخر في ظل حقوق مدنية لكل من يتواجد فيها وذلك من خلال الإجماع الذي توصلت إليه كل القوى السياسية فيها بما في ذلك أنصار الله - برغم تواجدهم المحدود فيها – فضلاً عن حزب المخلوع صالح (المؤتمر الشعبي العام)، حيث اتفقت كل القوى على أن تكون تعز خالية من أي مليشيات مسلحة ومن أي طرفٍ كان. كما اتفقت على أن أي طرف يستطيع التعبير عن رأيه بكل حرية في المحافظة وبكل الوسائل السلمية بما في ذلك المسيرات والاعتصامات ...الخ، وستتولى السلطة المحلية حماية ذلك الحق لكل الأطراف، وقد كان ذلك فعلاً، إلا أن تحالف صالح - الحوثي لم يتأخر كثيراً حيث بدأ بالحشد على الجنوب، واختار أن تكون تعز ممراً لمليشياته، كما اختار معسكر قوات الأمن الخاصة (الأمن المركزي سابقا) في المدينة مركزاً لتجميع قواته القادمة والمتوجه نحو الجنوب، خارقاً بذلك ما أجمعت عليه المحافظة من اتفاق، فخرج أبناء تعز لرفض ذلك مستخدمين الوسائل السلمية التي اعتادوها ومارسوها خلال ثورة 11 فبراير 2011 التي بدأت انطلاقتها من مدينتهم ضد المخلوع صالح، فكانت آلة القمع الوحشية لهم بالمرصاد وسقط عدد من الشهداء والجرحى، ذلك أن تحالف صالح – الحوثي كان قد حسم أمره في بسط سيطر مليشياته على كامل المحافظة، لذلك استمرت قوات تحالف صالح - الحوثي في الانتشار في المحافظة وقامت باستحداث نقاط التفتيش، كما استمرت في تمرير قواتها المتجه نحو عدن عبر المحافظة غير عابئةً بالاحتجاجات السلمية والتي أصبحت هدفا لنيران مليشياتهم. أمام هذا الوضع لم يجد أبناء المحافظة - الذين عُرف عنهم ميلهم الشديد للسلم ورفض العنف إلا أن يحملون السلاح دفاعا عن محافظتهم. ن ناحية أخرى استطاع صالح أن يشق قوات اللواء 35 مدرع المرابطة في المحافظة والذي تنتشر قواته من باب المندب غرباً حتى محافظة لحج شرقاً، وذلك بتمرد جزء كبير من تلك القوة التي أعلنت ولائها للرئيس المخلوع صالح، بينما انحاز الجزء الباقي من القوات للقيادة الشرعية للواء ممثلة باللواء الركن عدنان الحمادي، مشكلين بذلك قوام الجيش الوطني الموالي للشرعية. وهكذا دخلت تعز على خط المقاومة المسلحة وبدأ أعداد المنظمين للمقاومة يتزايد يوما بعد يوم، وبالمقابل تتزايد تعزيزات المليشيا على المحافظة باستمرار. اليوم خرج أبناء تعز يحتفلون بانتصار المقاومة الشعبية المسنودة بالجيش الوطني بعد أن سيطرت على 90% من المدينة التي ظلت قرابة خمسة أشهر تحت رحمة قذائف مليشيا تحالف صالح – الحوثي، التي لم تتوقف يوماً عن إرسال الموت إلى الأحياء المدينة وساكنيها.
ماذا يعني انتصار تعز؟ تعز هي العاصمة الثقافية للجمهورية اليمنية، ولها تأثير كبير على الوضع السياسي اليمني، ذلك أن أبناء هذه المحافظة يتواجدون في كل المحافظاتاليمنية شمالاً وجنوباً. فتاريخياً وصل أبناؤها في الجنوب إلى أعلى مناصب في سلطة الدولة الجنوبية قبل الوحدة 1990، كما أن الكثير من أبناء عدن هم من أصول تعود إلى هذه المدينة. كذلك يتواجد أبناء هذه المحافظة في كل أجهزة الدولة، كونهم الأكثر تعليماً. وسياسياً يتواجدون في كل تكوينات الأحزاب السياسية اليمنية، لذلك انتصار تعز وتحررها من تحالف صالح - الحوثي يعني الكثير للوضع القائم في اليمن عسكرياً وسياسيا.
التأثير العسكري لانتصار تعز: بانتصار تعز وتولي الجيش الوطني والمقاومة الشعبية السيطرة على مساحتها تصبح محافظة إب قابلة للسقوط بيد الشرعية من خلال حرمانها من أي إمدادات لقوات تحالف صالح – الحوثي من الجهة الجنوبية التي يمكن أن تأتي من جهة الحديدة والمخاء، كما أن تقدم قوات الشرعية من تعز نحو إب يمكنها أن تصنع كماشة مع قوات المقاومة الشعبية في إب التي اقتربت قبل فترة من مدينة يريم. من ناحية أخرى فإن تحرير المنطقة الغربية من تعز و المتمثلة في باب المندب له بعد استراتيجي، حيث بسقوطة بيد قوات الشرعية تسقطت مخاوف المجتمع الدولي من التواجد الحالي للموالين لإيران على المضيق الملاحي الهام الذي يمر من خلاله سنوياً ما لا يقل عن 20,000 سفينة، بكل ما يعني ذلك من أهمية وتأثير على الملاحة الدولية. كذلك تحرير محافظة تعز يعني فتح الطريق لتحرير الساحل والسهل التهامي كله، والممتد من باب المندب حتى الحدود اليمنية السعودية شمالاً، وهو ما يعني حرمان تحالف صالح – الحوثي من آخر المنافذ البحرية التي بأيديهم. هذا التقدم العسكري سيعني بالضرورة فتح المنفذ الرئيس بين اليمن والمملكة العربية السعودية الممثل في منفذ الطوال الحيوي. وبالسيطرة على هذا المنفذ مع مسافة آمنة للطريق الرابط بين الحديدة الطوال من نيران تحالف صالح الحوثي يستطيع التحالف العربي تسيير قوافل الإمدادات الإنسانية والعسكرية عبرها بسهولة ويسر. من ناحية أخرى فإن سيطرة الجيش الوطني والمقاومة الشعبية على تلك المناطق يعني سد كل المنافذ التي يمكن لإيران أن تمد من خلالها الموالين لها بأي إمدادات، وبالتالي عزلة كاملة لسلطة الأمر الواقع الممثلة بتحالف صالح - الحوثي والتي ستصبح محاصرة في إقليم آزال (مع استثناء المناطق الجبلية من محافظتي المحويت وحجة) بما يمثله من كتلة بشرية كبيرة وموارد محدودة جداً. بهذا الواقع الجديد تستطيع دول التحالف أن تتحكم بكل ما يصل للمناطق الواقعة تحت سيطرة تحالف صالح الحوثي، مما يتيح لها خيارات أكثر لحسم المعركة، سواء عبر حصار اقتصادي خانق للسلطة في تلك المناطق وما يعنيه ذلك من شلل اقتصادي لا يمكن له أن يطول، حيث خلال أشهر قليلة ستصبح سلطة الانقلابيين عاجزة عن سداد مرتبات موظفي الدولة، كما ستصبح عاجزة عن امتلاك السيولة المطلوبة لتوفير الاحتياجات الضرورية لساكني تلك المناطق، وهو ما سيؤول بالضرورة إلى انهيار السلطة وتسريع سقوطها، سواءً عبر الاستسلام وتنفيذه القرار الأممي 2216، أو من خلال عمل عسكري خاطف تقوم به دول التحالف، والذي سيسهله تذمر سكان الإقليم والترتيبات التي يمكن للتحالف القيام بها مع بعض القوى القبلية والعسكرية المتواجدة في الإقليم والتي يمكن لها أن تقوم بدور كبير في إسقاط الإقليم وتحريره من بقايا قوات المليشيا المنهكة أصلاً. التأثير السياسي لانتصار تعز: سيكون لانتصار تعز تأثيراً كبيراً على مستقبل الوضع السياسي في اليمن. فالمعروف أن الانتماء السياسي لأبناء محافظة تعز هو موزايك يشمل كل الاتجاهات السياسية من اليمين إلى أقصى اليسار، مع تواجد أكبر للانتماء القومي واليسار. لكن برغم التنوع يبقى التوجه المدني هو المهيمن والطاغي حتى في أوساط أولائك المنتمين إلى الأحزاب الدينية. ومعروف عن أبناء هذه المحافظة رفضهم لكل أشكال لانتماءات العصبوية التي تعود لما قبل الدولة وخاصة الروابط القبلية، بل أن منظرين الدولة المدنية في اليمن جلهم من أبناء هذه المحافظة، وينظر أبناء تعز إلى أن الولاءات والثقافة العصبوية المتجذرة في الشمال الجغرافي لليمن هي المعيق الأول لبناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة التي يتطلعون إليها، وعملوا لأجلها عقوداً من الزمن، لذلك فإن تعز بثقافتها المدنية تمثل الحامل الحقيقي لمشروع الدولة المدنية في اليمن. لقد أدت حرب 1994 بين شريكي الوحدة في اليمن إلى إضعاف الروح الوحدوية لدى العديد من سكان المناطق الجنوبية في اليمن بسبب الممارسات الخاطئة التي مارسها نظام صالح - المنتصر في تلك الحرب - بحق أبناء تلك المناطق وخاصة المنتسبين للمؤسسة العسكرية والمدنيين الذين تم تسريحهم من وظائفهم، ونهب الأراضي...الخ، وظهر جلياً التعاطف الكبير من قبل أبناء تعز مع إخوانهم في المحافظات الجنوبية. ومع مرور الوقت كان هذا الشعور لدى أبناء الجنوب يتزايد حتى تحول إلى حراك شعبي يرفع شعار القضية الجنوبية، بل ومنهم من ينادي بالانفصال، إلا أن تفتُت قيادات الحراك وتعدُدها أدى إلى حالة من التوهان بين المشاريع المطروحة للتخلص من الارتباط القائم بين الشمال والجنوب. وبالمقابل أظهر أبناء الشمال الجغرافي لليمن نكراناً لوجود قضية جنوبية، ولم يكن هذا الحال بالنسبة لأبناء تعز الذين أظهروا تفهمون أكبر لقضية الجنوب مع ميلهم الكبير لعدم المساس بوحدة اليمن. لذلك تعز تمثل خيط المسبحة التي يمكن أن يجمع بين الشمال والجنوب، وبالتالي يمثل انتصارها سقوط للمشاريع الصغيرة التي يسعى البعض إلى تمريرها، وفي مقدمتها المشروع الحوثي القائم على الاصطفاء بفعل الجين الوراثي الذي تدعيه وحصر الولاية في البطنين، فضلاً عن إسقاط مشروع التوريث الذي يسعى إليه صالح، كما أنه يمثل إسقاطاً لمشروع الانفصال الذي لازالت تسعى أليه بعض الأطراف الجنوبية. إن التحدي الأكبر الذي يوجه اليمن بعد إسقاط تحالف صالح الحوثي يتمثل في عدد أقاليم الدولة الاتحادية، فبرغم أن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني قد حددت ستة أقاليم، وذلك بفعل تأثير بعض القوى الفاعلة آن ذاك في المسار السياسي للبلد، إلا أن ما حدث بعد 21 سبتمبر 2014، واجتياح المليشيا المسلحة لعاصمة الدولة اليمنية وما تلاها قد غير موازيين القوى تماماً، وربما تكون إحدى نتائج التغير في هذا التوازن هو تغيير عدد الأقاليم (برغم تأكيد هادي عليها في آخر تصريح له عند زيارة قطر) والتي من المؤكد ستكون الخطوة التي تفكك تماسك الجبهة التي تقف مع الشرعية اليوم ضد الانقلابيين في صنعاء، بل قد يؤدي تغيير عدد الأقاليم إلى خلق اصطفافات جديدة تتجاوز الحالة القائمة اليوم.